تنكر قريش لمألوفاتها من أجل الدفاع عن عقيدتها

فأنت تجد الفرق -مثلاً- بين زيد بن عمرو بن نفيل هذا الذي لم ينقل أنه لقي من قريش شيئاً، وقد يسخرون منه، وقد يردون دعوته، لكن وقف هذا الأمر عند هذا الحد، ولما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ففي البداية لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قولوا: لا إله إلا الله، فماذا لقي صلى الله عليه وسلم؟ ما تركوا أسلوباً من أساليب الحرب إلا سلكوه، وذموه، وخالفوه حتى فيما كانت قريش تتعاهده، وما كنت العرب تفتخر به.

وعلى سبيل المثال: كان العرب يفتخرون بالكرم -إكرام الضيف- تفتخر به حتى في جاهليتها، وهناك أجواد كرماء معروفون في الجاهلية، منهم -مثلاً- عبد الله بن جدعان، كان معروفاً بمكة وكان كريماً يقري الضيفان حتى إنه يبعث أناساً في مشارقمكة ومغاربها ينادون من أراد الطعام فليأت إلى دار عبد الله بن جدعان، ولذلك مدحه أمية بن أبي الصلت فقال: له داعٍ بمكة مشمعلٌ وآخر فوق دارتها ينادي إلى قطع من الشيزى ملاء لباب البر يُلبَك بالشهاد أي أن له دعاة ينادون الناس إلى قطع من ألوان الخشب وغيرها من الأواني التي فيها العسل وألوان الأطعمة الجميلة والبر وغير ذلك، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به من آمن، حاربوهم حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب، حتى إن الواحد منهم يذهب من أجل أن يقضي حاجته فيجد تحته شيئاً فينظر فإذا هي قطعة من القد -جلد يابس- فيأتي فيطحنه ويسفه ويشرب عليه الماء فيتقوى به أياماً، وحتى كانت قريش تسمع تضاغيهم وتضاغي أطفالهم، وتسمع صياحهم فلا تلين لها قناة، ولا تتحرك في قلوبها دوافع الرحمة.

بل أشد من ذلك، لما ضايقوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمكة، فروا بدينهم إلى الحبشة، فلم تقل قريش: هؤلاء قومٌ خرجوا منا فدعوهم وما ذهبوا إليه، لا، بل صاروا يطاردونهم ويلاحقونهم مثل ما تعرفون الآن، فالآن يوجد في العالم جهاز يسمونه جهاز الإنتربول أو البوليس الدولي، هذا مهمته ملاحقة من يسميهم العالم بالمجرمين في أي مكان، لا تحده الحدود ولا القيود ولا السدود.

فهكذا قريش لما ذهب الصحابة إلى الحبشة، لم ترض بمقامهم هناك، بل عزمت أن تبعث إلى الحبشة من يحاول أن يوغر صدر رئيسها وملكها عليهم ليخرجهم من أرضه، فبعثوا عبد الله بن أمية وعمرو بن العاص وغيرهم إلى النجاشي ليقولوا له: إن هؤلاء القوم فيهم وفيهم، وقومهم أبصر بهم فردهم إليهم.

انظر إلى هذه الحرب، وانظر كيف تنكرت قريش لمألوفاتها الجاهلية من إكرام الضيوف، والحرص عليهم.

وأين قصائدهم وأشعارهم ومعلقاتهم؟! كل المعلقات السبع وغيرها مليئة بالمدح بالكرم والجود والسخاء، كل ذلك ضاع لما صارت المعركة بين التوحيد والشرك، هذا كله لم يلقه زيد بن عمرو بن نفيل، ولا أمية بن أبي الصلت ولا غيرهم ممن كانوا حنفاء في الجاهلية، لم يلقوا من قريش شيئاً يذكر، وكانت تحترمهم في أحيان كثيرة، لماذا؟ لأنهم لم يعلنوها دعوة صريحة مجلجلة في نوادي قريش وأحيائها، ولم يجمعوا الناس على كلمة التوحيد، ولم يقدموا للناس خطة إصلاحية تبدأ في الحياة من أولها إلى آخرها، كلا؛ وإنما كانوا يعايشون الوضع الفاسد المنحرف الذي كان في الجاهلية، وربما أنكروا بألسنتهم في حدودٍ ضيقة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015