تلاحظون الفرق الكبير بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من المصلحين؛ وبين غيرهم ممن قد يكونون صالحين ولكنهم لم يقاوموا الفساد ولم يحاربوه، رضوا بالطريق السهل اللين الذي ليس فيه عناء ولا جهد، فمثلاً في الجاهلية كان يوجد الحنفاء الذين لا يعبدون إلا الله ولا يرتكبون المخالفات الشرعية، ولا يتعرضون للناس في شيء، فلم يكن ينالهم من الناس شيء.
على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان موجوداً في مكة كما هو معروف في الجاهلية، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل لقي النبي صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح -وهو جبل ووادٍ بين مكة وجدة على طريق التنعيم أو غيره- فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه زيد بن حارثة، وقد قدمت وقربت للنبي صلى الله عليه وسلم سفرة من طعامٍ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدنو منها فيأكل، فقال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان ينكر على قريش ذبائحهم، ويقول: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض -يعني العشب- ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له، وكان يصرح لقريش بإنكار عباداتهم، فيقول: هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور فلا عُزّى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور وكان يقف قبالة الكعبة ويستعيذ بالله تعالى ويسأله ويتحنث ويتعبد ويقول: عذت بما عاذ به إبراهم مستقبل الكعبة وهو قائم يقول أنفي لك عانٍ راغم مهما تجشمني فإني جاشم وانظر كيف القلب المؤمن، والحي، والموحد، يخاطب الله تعالى ولا يعبد غيره، ويقول: أعوذ بك يا ربي كما عاذ بك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين وقف مستقبل القبلة يدعوك، ويسألك ويستعيذ بك، ويقول: أنفي لك راغمٌ في التراب، ذليلٌ بين يديك، ومهما تحملني فأنا أتحمله في سبيلك.
وكان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وكان يأتي إلى الرجل وعنده جارية يريد أن يئدها ويقتلها من بناته، ويقول له: لا تقتلها، أي ذنبٍ فعلت حتى تقتلها؟ إذا كان يشق عليك أن تطعمها وتكسوها فهاتها لي فأنا أطعمها وأكسوها، فيأخذها منه ويطعمها ويكسوها، فإذا كبرت قال لأبيها: إن شئت أخذتها وإن شئت أبقيتها عندي، ولذلك تمدّح ََالشاعر بأنه ينتسب إلى مثل هذا الرجل فقال: ومنا الذي منع الوائدات وأحياء الوئيد فلم يوءد لكن زيد بن عمرو بن نفيل ومجموعة من الحنفاء في مكة لم يكن لهم أي تأثير، لماذا؟ لأنهم كانوا أشبه باليائسين من الإصلاح، ولأنهم يرون أن العالم كله يعج بألوان الشرك والوثنية والانحراف، والقاذورات الأخلاقية، والنظم وغيرها من الأشياء؛ التي يرون أن لا طاقة لهم ولا قبل لهم بها، فكانوا يرضون بصلاح أنفسهم فقط، ويدعون ما وراء ذلك، حتى وإن بدر منهم كلمات أو توجيهات أو مشاركات فهي أشياء جزئية ومحدودة ومعدودة وفي نطاق معين، أما أن يكون عندهم خطة للإصلاح الكامل في كل شئون الحياة، فهذا ما لم يكونوا يستطيعونه، ولهذا بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأيده بهؤلاء الصحاب الكرام، الذين جاهدوا إلى جواره عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم.