الصفة الرابعة

ذكر في حديث أبي ثعلبة {إذا رأيت شحاً مطاعاً} الشح هو: الحرص مع البخل، رجل حريص وبخيل بالمال أطاع نفسه في الشح، وهذا الشحيح أصبح مطاعاً، لا تجده إنساناً كريماً إلا ما قل وما ندر.

{وهوى متبعاً} يتبع الإنسان هواه فيعرض عن الكتاب ويعرض عن السنة وعن الحق ولا يطيع إلا هواه {ودنيا مؤثرة} يؤثر الدنيا على الآخرة وهذا بداية الكفر، كما قال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وقال: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] فيؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ولا يبالي الواحد منهم ما أصابه في دينه إذا سلمت له الدنيا، {وإعجاب كل ذي رأى برأيه} فلم يَعُدْ يسمع لا آية ولا حديثاً ولا قول عالم ولا شيخ بل يكفيه ما عنده.

أنا لست أنكر أن هذه الأمور كلها يوجد شيء منها الآن، خذ على سبيل المثال: الإعجاب بالرأي، والله الذي لا إله غيره إنني أشهد أنك إذا سمعت حديث بعض الناس في مجالسهم أو في غير ذلك، تقول: سبحان الله! هذا إعجاب كل ذي رأي برأيه، يتكلم الواحد منهم عن قضية شرعية مختلف فيها، فالعلماء اختلفوا فيها، والصحابة اختلفوا فيها، والأمة اختلفت فيها، فيقرر رأيه وقوله حتى كأنه حق وما سواه باطل، حتى كأنه أتاه وحي بأن هذا الأمر حق وهذا الرأي حق.

وهذا من إعجاب المرء برأيه، حتى إنك تجد الإنسان والعياذ بالله قد يكون -أحياناً- عنده رأي خطأ وفاسد وباطل، ومع ذلك يتعصب لهذا الرأي، وتتشبع به نفسه، ويمتلئ به قلبه، حتى إنه إذا وجد من يخالفه في هذا الرأي يغضب ويكاد يتمزق من الحسرة، وربما من الغيرة والغضب لله وللرسول أيضاً، لكن تلبس عنده الإعجاب بالرأي بما يعتقد أنه حق وشرع وصحيح.

لكن هذا ليس عاماً فما زال في الأمة بحمد الله؛ من الكبار والعلماء، وطلاب العلم، والعامة من لا تجده معجباً برأيه، قد يعتقد برأيه فإذا ناقشته فيه قال: جزاك الله خيراً، والله قد أصبت، وما ظاهرة رجوع الناس إلى مذهب أهل السنة والجماعة واعتقادهم به وتخليهم عن كثير من البدع، إلا دليل على ذلك، ومظاهر تراجع كثير من الناس عن المذاهب الفاسدة المادية من اليسارية والقومية والناصرية والشيوعية ومجيئهم إلى الإسلام إلا دليل على ذلك، وما رجوع بعض العلماء عن أقوالهم إلا دليل على ذلك.

فالعالم قد يقول لك: من كنت أفتيته بكذا فليرجع إليَّ؛ فأنا رجعت عن قولي وتبين لي أن ما قلته له خطأ وأن الصواب كيت وكيت، وهذا دليل على أنه لا يوجد عنده إعجاب بالرأي، وإلا لتمسك برأيه وما تراجع عنه.

إذاً، الإعجاب بالرأي موجود لكن لم ينتشر في الأمة بحيث أن الأمر وقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي -كل من ألفاظ العموم- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} ما زالت الأمة في خير كثير.

إذاً: هذه الصفات السبع إذا وجدت أستطيع أن أقول لكم: لا تأمروا بالمعروف ولا تنهوا عن المنكر، لماذا؟ لأنه لا فائدة من الأمر والنهى، ما دام أن كل واحد معجب برأيه، والهوى متبع، والدنيا مؤثرة، والشح مطاع، وهؤلاء القوم صاروا حثالة ومرجت أماناتهم وعهودهم واختلفوا وصاروا هكذا، إذا تحقق (100%) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ لا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع للمصلحة، وما دام لن يتحقق الامتثال فلا فائدة، فنقول للآمر حينئذٍ.

-إذا وجد هذا- أمسك عليك نفسك، أمسك لسانك واحفظ نفسك، حتى لا تصاب بأذى وتتعرض لاضطهاد، أو تضييق، أو إزعاج، أو تؤذى في نفسك، أو أهلك، أو ولدك، أو مالك، أو أصحابك، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر.

لكن متى يتحقق هذا؟ أو متى نحكم على واقع معين بأنه قد تحقق فيه هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأريد أن أشير إلى أن أصول الأحداث وبداياتها كانت موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة في الحديث السابق -حديث نزع الأمانة- قال: [[ولقد مر علي زمان ما أبالي أيكم بايعت]]-ليس عندي مانع أي واحد أبيع له ولا آخذ منه المال- يقول: إن كان مؤمناً يرده علي إيمانه وإن كان كافراً يرده علي ساعيه فالأمور مضبوطة إذا كان مسلماً يرجع لي بالمال، وإذا كان غير مسلم فالجهات المسئولة تحفظ لي مالي، هكذا ثم يقول حذيفة: [[أما اليوم فما أبايع إلا فلاناً وفلاناً وفلاناً]] ذكراً أناساً معدودين هم الذين يبايعهم، أما البقية فلا يبايعهم.

إذاً: البدايات موجودة منذ عهد الصحابة، لكن متى تحقق الأمر الذي يجعلنا بمنجاة، ويبيح لنا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هل تحقق هذا؟ كلا، لم يتحقق هذا، ومازلنا مطالبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فيما مضى وفي الوقت الحاضر أيضاً.

فالبداية وجدت منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم كما ذكر حذيفة رضي الله عنه، وأما فيما عدا ذلك فإن كل عالم في عصره يخيل إليه أن الأمر يوشك أن يكون.

فمثلاً: أذكر أن ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري وهو فقيه مالكي، لما تكلم عن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويكثر الزنى} إلى آخر الحديث، قال ابن بطال رحمه الله: جميع ما تضمنه هذا الحديث من أشراط الساعة رأيناها عياناً، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقي الشح، وعمت الفتن، وكثر القتل إلى آخر الحديث.

وعقب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: إن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله يعني وجود الشح مع وجود الكرم، ووجود الجهل مع وجود العلم، ووجود القتل مع وجود الأمن، ولم يكن أمراً عاماً.

قال ابن حجر: وقد مضى على الوقت الذي تكلم فيه ابن بطال ثلاثمائة وخمسون سنة والأمور في ازدياد.

ومن الطريف أن الخطابي في كتاب "العزلة" روى حديثاً عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: [[إنها كانت تتمثل بهذه الأبيات- تقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثون مخافة وملاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشرب]] أي: أنهم قوم يكثرون من الكلام، ويحاولون أن يخطِّئوا الآخرين وإن لم يكونوا مخطئين، هكذا تقول عائشة رضي الله عنها، تقرأ هذه الأبيات وهي للبيد، فتقول عائشة رضي الله عنها: [[ويح لبيد! كيف لو أدرك هذا الزمان!]] يعني الذي كانت فيه عائشة رضي الله عنها.

يقول عروة بعدما روى الحديث: [[كيف لو بقيت عائشة رضي الله عنها حتى أدركت الزمان الذي نحن فيه؟!]] بعد هذا يقول هشام بن عروة: [[كيف لو أدرك أبي - عروة - هذا الزمان الذي أنا فيه؟! ولما قالوا لسلمة بن شبيب وهو أحد رواة الحديث أيضاً قالوا له: يا أبا الفضل! كيف تقول أنت؟! فعروة تكلم وهشام بن عروة تكلم وعائشة تكلمت، وأنت كيف تقول؟! تقول: كيف لو عاشوا -قال: ما عسى مثلي أن يقول! أنا أقول: "على رأسي التراب"]] .

التراب على رأسي، بل أنا لا أستحق أن أقول شيئاً أبداً، هؤلاء الذين ذكرتهم يقولون ما سبق، وكيف لو عاش فلان؟! أنا لا أقول: كيف لو عاش فلان؟ أنا أقول: التراب على رأسي؟ أي: كأنه رضي الله عنه يقول: أنا أذم نفسي وأوبخ نفسي ولا أتكلم في الآخرين.

فهذا محمول منهم على الزراية بأنفسهم وواقعهم وذمه، ولا يلزم أن يكون هذا دليلاً على تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

والذي يريد أن يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو تحقق في هذا الوقت يلزمه أن يراعي ثلاثة أمور: الأمر الأول: ألاَّ يحكم إلا إذا تحققت فيه الشروط، هل هو عالم بالشرع مثلاً؟ إذا لم يكن عالماً بالشرع فليس من حقه أن يحكم، وإلا فبعض الجهال قد يرى هذا الوقت، فيقول: أبداً، الواقع ممتاز، ونحن في أحسن حال، بل إن بعض المنحرفين قد يخيل إليه أن الأمة ما مرت في زمن أحسن من تلك الأزمنة التي يعيش فيها؛ لأنه يقيس الأمور ليس بمقياس الشرع بل بمقياس الهوى، مقياس الدنيا، فلا بد أن يكون الذي يحكم على الواقع عالماً بالشرع، ولا يكفي العلم بالشرع -أيضاً- فقد يكون عالماً بالشرع لكنه غير عالم بالواقع، لا يدرى ما الناس عليه، فإذا كان من البيت للمسجد ما رأى منكراً في حياته قط، يقول: والله الأمور -والحمد لله- جيدة، لكن لو أخذته مرة في رحلة وذهبت به إلى أحد الأسواق، أو الحدائق، أو غيرها فرأى من المنكرات لربما فقد وعيه من شدة ما فوجئ به.

فلا بد من العلم بالشرع مع العلم بالواقع، أن نعرف الواقع.

وهناك صفة أخرى، وهي: أن يكون الإنسان فيه اعتدال بطبعه، فبعض الناس حاد المزاج ينظر إلى الجانب المظلم، مثل ما يقال في المثل: لو أتيت بكأس نصفه فارغ ونصفه الآخر ممتلئ بالماء، فتأتي به لإنسان فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس، نصفه فارغ، فهو نظر إلى الفراغ الموجود في الأعلى، فقال: نصفه فارغ، وهذه نصف الحقيقة.

وتأتى لإنسان آخر، فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس نصفه ممتلئ، فهو نظر إلى النصف الممتلئ.

وتأتي لإنسان ثالث، فيقول لك: كلاهما أصاب هذا وصف شيئاً وهذا وصف شيئاً آخر.

إذاً: قد تأتي لإنسان عنده نوع من النظرة التشاؤمية للواقع، فيقول لك: الواقع فيه كذا وحصل من تبرج النساء وفساد الشباب وضياع الأمور، وكذا وكذا، فيذكر لك سلسلة وقائمة من الانحرافات، حتى يخيل إليك أن الدنيا كلها رقعة سو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015