مثل آخر يتعلق بأحاديث الفتن: موضوع التشبه بالكفار، فالنهي عن التشبه بالكفار ورد فيه أيضاً آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فنهى عن التشبه باليهود والنصارى.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند جيد، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فالتشبه بالمشركين لا يجوز مطلقاً، سواء اليهود أو النصارى أو عبدة الأوثان أو غيرهم، فيما هو من خصائصهم سواء في أعمالهم أو في أمور السياسة أو في أمور الاقتصاد أو في أمور السلوك أو في الأخلاق أو في الأفكار، لا يجوز التشبه بهم بحال من الأحوال، ومع ذلك فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التشبه سيقع، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومثله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فجحر الضب لا يوجد أضيق منه، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لو حصل أن اليهود والنصارى دخلوا جحر ضب، فإنكم ستحاولون أن تدخلوا جحر الضب وراء اليهود والنصارى! {قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!} أي: ليس هناك إلا هم: اليهود والنصارى، وفي الحديث الآخر {لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إنه لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك} الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية، إن الإنسان يستحي أن يتحدث بهذا أمام الناس، فضلاً عن أن يأتي زوجته، فكيف بمحارمه؟ فكيف بأمه؟ والعياذ بالله، لو وجد في الأمم الأخرى من يصنع ذلك لوجد في هذه الأمة من يصنع ذلك، {قالوا: يا رسول الله! فارس والروم، قال: من القوم إلا أولئك} .
إذاً: اليهود، النصارى، الروم، فارس وغيرهم من الأمم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك نوعاً من التشبه سوف يقع، فلا تعارض، نقول: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم سيقع لكن نحن مطالبون ومتعبدون بأن ننهى عن التشبه، نمتنع منه في نفوسنا، نمنع أولادنا وزوجاتنا وأهل بيتنا ومن نملك، نحذر الناس من هذا الأمر، نؤلف الكتب ونلقى المحاضرات ونتكلم عن هذا الأمر، ونبين للناس خطورته، ثم لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون من هذه الأمة من لا يسمع لنا، لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون في هذه الأمة أصحاب الفكر المستغرب، من الذين تربوا على موائد الشرق والغرب، وأعجبوا بالمفكرين الغربيين من اليهود والنصارى فحذوا حذوهم وصاروا على نهجهم، وصاروا يعظمونهم ويعتبرون أن هؤلاء هم المفكرون الحقيقيون، وأن الحياة تفهم من خلال أفكارهم، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد من أعجب بالأدباء والشعراء الغربيين، وليس المقصود مجرد الإعجاب بأدبهم وتشعرهم بل الإعجاب بشخصياتهم وحياتهم، فصار يحاول أن يعيش وفق ما عاشوا حتى لو كانوا يعيشون في تعاسة وشقاء لأعجبه أن يعيش في هذه التعاسة والشقاء، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} .
فإذا كان الغرب يعيش في شقاء وجحيم ونسب الانتحار والتدمير نسب مرتفعة، أعجب كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام ممن تربوا على موائد الغرب أن ينقلوا إلينا تعاسة هؤلاء الغربيين ويحاولوا أن يدخلوها في هذه الأمة، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد في الأمة من ينقل القوانين الغربية ويحكمها في دماء المسلمين أو أموالهم أو أبشارهم أو أخلاقهم، لا يضيرنا ذلك مادمنا قمنا بما يجب علينا من التحذير من ذلك، والنهي عنه وبذل ما نستطيع في منعه، وقمنا فيما يتعلق بأشخاصنا ومن نملك بالمنع من هذا الأمر، فإن الإنسان متعبد كما بالشرع واتباعه لا باتباع القدر، ولا يقعد هذا الأمر من هممنا؛ فإننا نعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس عاماً، لهو لم يخبر أن الأمة كلها سوف تتبع اليهود والنصارى، بل أخبر أن من الأمة من يفعل ذلك فئام من أمته، طوائف من أمته ومعنى ذلك أنه لا يزال في هذه الأمة فئام وطوائف أخرى كثيرة بقيت على الدين الصحيح، ولم تقبل لا ما كان عند اليهود ولا ما كان عند النصارى ولا فارس والروم ولا غيرها، بل رضيت بمنهج الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.