رعايته لبناته صلى الله عليه وسلم

الجانب الثالث: في موضوع معاملته لبناته صلى الله عليه وسلم، هو موضوع التربية والتأديب والتعليم، فإنه لابد مع العطف والحنان، ومع الرعاية الاهتمام بالمصالح، لا بد من التربية والتعليم والتأديب.

ففي القصة السابقة، ظهر جلياً أن النبي صلى الله عليه وسلم يرشد فاطمة رضي الله عنها إلى هذا الأدب، وهذا الذكر، وأنه خيرٌ لها من خادم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن هذا الذكر مجرب في منح الإنسان الذي يزاول الأعمال القوة والقدرة على ما يعانيه من الأعمال ذكراً كان أو أنثى، فمن حافظ على التسبيح، والتحميد والتكبير كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، كان هذا سبباً في قوته ونشاطه، وقدرته على القيام بالأعمال، والمرأة المسلمة ينبغي لها أن تتعلم هذا الأدب الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته، لتحرص على التسبيح والتحميد والتكبير.

المثال الآخر في هذا الموضوع: فهو ما رواه النسائي في السنن الكبرى، وأبو داود، بإسنادٍ فيه راوٍ صدوقٌ له مناكير فلعله أن يكون حديثاً حسناً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: {أنهم حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم جنازة، فلما صلوا عليها ذهب النبي عليه الصلاة والسلام معهم، فدفنوها ثم رجعوا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند بابه، فإذا بامرأة مقبلة، فلما دنت منه إذا هي فاطمة رضي الله عنها، فقال لها: من أين أقبلتِ؟ قالت: يا رسول الله ذهبت إلى أهل هذا الميت، فعزيتهم بميتهم، ورحمت على ميتهم، قال عليه الصلاة والسلام، لعلك بلغت معهم الكدى، والكدى المقصود بها المقابر، لأن الناس يضعون قبورهم في الأرض الصلبة التي إذا حفرت لا تنهد، لعلك بلغت معهم الكدى، قالت: لا، يا رسول الله، كيف أفعل وقد سمعت ما قلت} أي: من التشديد في منع النساء من زيارة المقابر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله زوارات القبور، فقالت: لا، وكيف أفعل وقد سمعتك تقول ما قلت؟ {فقال عليه الصلاة والسلام: لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك} وجد أبيها من المشركين الذين كانوا في الفترة والله أعلم، فالمقصود أنها لو فعلت لما دخلت الجنة وهذا وعيدٌ شديد وإن كان لا يقتضي كفر من زار المقبرة من النساء بلا شك، وإنما يقضي أن هذا ذنبٌ يعاقب عليه بالتعذيب في النار مدةً ثم يخرج المعذب من النار متى شاء الله، ولا يقتضي هذا الخلود فيها، فأنت إذا نظرت إلى هذه القصة، وجدته صلى الله عليه وسلم أولاً، يستغرب ويستعظم على بنته أن تخرج من البيت، ولذلك سألها ما الذي أخرجك من بيتك؟ يستغرب خروجها، وهذا دليل على أن الأصل أن تقر المرأة المسلمة في بيتها أسوةً بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسوةً بنساء المؤمنين، واستجابةً لأمر الله تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:3] .

فالأصل للمرأة القرار في بيتها، وخروجها من البيت لا يكون إلا لمصلحة أو حاجة، كأن تخرج لما لا بد لها من حوائجها، أو لتعلم علمٍ ينفعها، أو لزيارة مريض، أو لصلة رحم، أو لخيرٍ، أو لحاجة دنيوية لا بد لها منها، وإلا ففي ما عدى ذلك، فالأصل في المرأة القرارُ في بيتها.

ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة ما الذي أخرجك من بيتك؟ ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لعلك بلغت معهم الكدى} دليل على أنه يحرص عليه الصلاة والسلام على معرفة تصرفات بناته، وماذا عملن حتى في غيبته، وحتى فيما لم يطلع عليه ليطمئن على ذلك، فأين هذا اليوم مما نجد من كثير من الأولياء؟ وقد أطلقوا العنان لبناتهم، وتركوا الحبل على الغارب، فالبنت تخرج من بيتها تخرج ليس للمدرسة -مثلاً- ولا لحضور محاضرة أو علم، ولا لزيارة قريب، وإنما تخرج للسوق، وربما تخرج بصفة مستمرة تخرج يوماً لتشتري حاجة، ثم تخرج اليوم الثاني لترد هذه الحاجة لأنها غير مناسبة طويلة أو قصيرة أو لونها غير مناسب أو ما أشبه ذلك، فلابد من تغييرها وتخرج في اليوم الثالث لتشتري حاجة لبيت الجيران، وفي اليوم الرابع والخامس وهكذا، حتى أصبحت مسألة التسوق -وهي كمثال- أمراً عادياً عند الكثيرين، وأصبح كثير من الآباء يرون أن من العيب أن يراقبوا تصرفات بناتهم، وذلك من باب حسن الظن في بعض الأحيان والغفلة، فتجد أن الأب لأنه يعرف أولاده منذ الصغر، ويحسن الظن بهم يفسر تصرفاتهم على أحسن المحامل دائماً.

وعلى سبيل المثال يأتي الأب -أحياناً تأتيه- فاتورة التليفون فيجد فيها مكالمات طويلة عريضة، ومبالغ ضخمة، والبيت مملوء ببناته ممن لم يربهن ولم يعلمهن العلم الشرعي، ولم يحرص على توجيههن، بل تركهن لغيره، فربما يذهب ذهن الأب إلى أن هذه الكميات الكبيرة من المكالمات خطأ من المسئولين في الهاتف أو ما أشبه ذلك، لكن لا يذهب ذهنه إلى أن هناك احتمالاً أن يكون هناك مكالمات في داخل البيت لم يعلم هو بها، مثال آخر يوجد في كثير من البيوت تجد أن الأب يأتي بسائق في البيت، وهذا السائق شاب في غالب الأحوال، وبشر وإنسان مهما يكن الأمر، فتجد هذا السائق يذهب بالبنات إلى المدرسة ويرجعهن منها، وإلى السوق، وإلى الأقارب، وإلى كل مكان بلا حسيب ولا رقيب، وكأن هذا السائق ليس إنساناً، وأن بناته لسن نساءً يجول في خواطرهن وضمائرهن ما يجول في ضمائر غيرهن، فالرسول عليه الصلاة والسلام حين يسأل ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، يسألها: ما الذي أخرجك من بيتك؟ ولنا في ذلك أسوة وقدوة أن الأب يراقب تصرفات أولاده ذكوراً وإناثاً، وأيضاً أن الولد ذكراً كان أو أنثى لا يجد غضاضة أن يسأله أبوه أين كنت؟ ومن العجيب يذكرون أن رجلاً عمره يفوق الستين شيخ من إحدى البلاد الإسلامية وكان مسئولاً كبيراً في ذلك البلد، وكيلاً في وزارة، فكان يقول: بلغ عمري ستين سنة، وكان أبي شيخاً كبيراً في البيت، فكنت إذا دخلت منذ طفولتي وإلى تلك السن إذا دخلت يسألني: أين كنت؟ ومع من؟ حتى اعتاد على هذا الأمر فكان يقول له في الكبر يا أبي أنا الآن كبرت وأصبح أولادي لهم أولاد، فقال له اسمع يا ولدي هذان السؤالان لابد منهما أين كنت؟ ومع من كنت؟ فالكثير من شبابنا اليوم وفتياتنا يجدون غضاضة أن يسألهم أبوهم، أو تألهم أمهم، أو يسألها أبوها، أو تسألها أمها: أين كنت، وليس في هذا من غضاضة.

الأمر الثالث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يقول لبنته: {لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك} تحذير من الخطأ الذي لم يقع معه حذراً مما قد يقع، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن بنته لم تبلغ الكدى ومع ذلك وجهها هذا التوجيه، ولذلك فعلى الأب أو المربي أو الموجه ألا ينتظر حصول الخطأ حتى ينبه عليه، بل أن يسبق الأحداث ويحرص على أن يوجه أولاده ومن ولاه الله أمرهم قبل أن تقع منهم الأخطاء، فكما يقال (الوقاية خير من العلاج) .

هذا فيما يتعلق باهتمامه صلى الله عليه وسلم ببناته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015