كذلك النقطة الثالثة وهي: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها، ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فإن كثيراً كثيراً من الناس ربما يتكلمون في قضايا ويتحدثون عنها, كما لو كان الواحد منهم ابن بجدتها ويقول: أنا عذيقها المرَّجب، وجذيلها المحكك ويتكلم في هذه القضية كأنه يدركها تماماً، بينما لو أخذت وأعطيت ربما تجده لم يفقه أصل المسألة؛ فضلاً عن تفاصيلها وأقوال الناس فيها وأدلتهم والراجح والمرجوح.
ولهذا فإن من الحكمة والذكاء أن يكفَّ الإنسان عن كثير من الأسئلة وكثير من المناقشات والمجادلات التي لا يملك الإنسان دليلها ولا حسن النظر فيها.
في بعض الأحيان يصبح الحوار؛ سواء كان حواراً في القنوات الفضائية، أو في المجالس، أو في (الإنترنت) -يصبح كأنه نوع من التصفيق، وكأننا في حلبة مصارعة أو ملاكمة، هؤلاء يصفقون لهذا وهؤلاء يصفقون لهذا، وربما لو أمسكت بأحدهم وسألته: ما الموضوع؟ أو ما الخطب؟ لم تجد عنده معلومة دقيقة سوى أنه يحب هذا ولهذا يصفق له، أو يكره هذا ولهذا يحاول تحطيمه، وهذا ليس من العقل ولا من الرشد في شيء.
ولا زلت أذكر أستاذاً كان يدرسنا في الجامعة، فجرى نقاش بينه وبين أحد الطلاب يوماً من الأيام، وكان نقاشاً علمياً هادئاً، لكن في آخر الفصل كان هناك طالب عنده نوع من قلة الأدب وقلة الحياء، وأحب أن يستفز المدرس، فكان كلما حصل توقف في النقاش صرخ هذا الطالب الآبق بأعلى صوته وقال: واحد صفر.
يعني: لصالح الطالب، باستمرار، ومع ذلك كان المدرس لبقاً وذكياً؛ ولذلك عامل الموضوع بهدوء حتى انتهى النقاش.
أيضاً من آداب المجادلة بالتي هي أحسن: الحرص على التي هي أحسن، كما ذكر ربنا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وهنا لاحظ التعبير بالأحسن، فالله سبحانه وتعالى حتى فيما أنزل هناك حسن وأحسن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وهناك حسن وأحسن، وعلى الإنسان أن يختار الأفضل والأحسن بقدر المستطاع؛ لأن الشيطان ينزغ بينهم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53] .
الإمام الشافعي رحمه الله كان يقول للربيع، والربيع أحد تلاميذه، كان يقول له: يا ربيع! اكسُ ألفاظك.
يعني: ألبسها كسوة، لا تخرج اللفظ عارياً، أو بعيداً، أو غليظاً، وإنما حاول أن تصنع عليه لباساً جيداً.
وجاءه مرة من المرات الربيع وهو مريض، فقال له: يا إمام! قوَّى الله ضعفك.
فقال له الشافعي: يا ربيع! أصبت المعنى وأخطأت اللفظ، لو قوَّى الله ضعفي لزاد ضعفي فمرضت ومت، وإنما قصدك أن يزيل الله ضعفي، أو يضعف ضعفي فتقوى قوتي.
ولا شك أن اختيار الألفاظ الجيدة هو من الأدب الذي ينبغي أن يأخذ النشء به أنفسهم.
إذاً النقطة الأولى: المجادلة والمحاورة والمحاجة بالتي هي أحسن، بمعني: بدون صخب ولا ارتفاع أصوات ولا استخدام ألفاظ سيئة، ودعوني أضرب أمثلة سريعة: الزوجان عندما يختلفان في مسألة من المسائل، تلاحظ في بعض الحالات أن الزوج ربما يأتي بما تقدم وما حدث، يقول لهذه المرأة مثلاً: تذكرين من يوم تزوجنا وأنا في نكد وتعب وعناء، وقلة راحة، ومن هذا القبيل ويبدأ يسرد لها تاريخاً طويلاً، بينما كانت القضية محدودة، لسنا بحاجة إلى استدعاء تاريخ قديم يضاف إلى الواقع الحالي، فتصعب المعالجة، وإنما على الإنسان أن يعالج الموقف الموجود دون أن يستدعي إليه ما يضيف.
وكذلك المرأة ربما غضبت على زوجها فقالت -كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم-: (ما رأيت منك خيراً قط) وحاولت أن تطيح بكل ماضيه وكل عمله.
فعلى الإنسان حينئذٍ أن يحرص على أن يضبط نفسه، وهذه هي قيمة الإنسان: أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان قيمة الإنسان أن عنده قدرة على ضبط نفسه، وضبط مشاعره، فلا تسع لتأتي بالعبارات القوية التي تظن أن بها الانتصار على الطرف الآخر، ولا أقول خصماً؛ فليست زوجتك خصماً، كذلك الولد، أو الزميل، أو المجادل لك في مسألة علمية، أو في مسألة دعوية، أو المختلف معك أيضاً.