بوادر العذاب ومقدماته

السبب الرابع الذي يوقظ الله عز وجل به عباده: أن الله تعالى قد يظهر لهم بوادر العذاب ومقدماته وأوائله لعلهم يعتبرون، ولعلهم يرجعون ويخافون، ثم يكشف عنهم ذلك، كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:135] أي أنهم لما نزل بهم العذاب والرجز دعوا ربهم وقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف:134] أن يكشف عنهم الرجز والعذاب، فلما كشف الله عنهم الرجز، نكثوا عهدهم وميثاقهم ووعدهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، وهذا -والعياذ بالله- أمر قد تبتلى به -أيضاً- الأمم المنتسبة إلى الإسلام، فكم من إنسان إذا نزلت به مصيبة؛ بكى وصرخ ووعد الله عز وجل أن يتوب، فإذا مد الله تعالى له في العمر ووسع له في الرزق نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وعاد إلى ما كان عليه من الفساد والانحراف، وكذلك الحال بالنسبة للأمم والشعوب، ولا أدل على ذلك من أن هذه النكبة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام لما حدثت وجدت من الناس بعض الإقبال إلى الله عز وجل؛ لأنهم اعتبروها بداية عذاب، وبادرة لما بعدها، فعاد بعضهم إلى الله عز وجل، وزاد عدد المصليين في المساجد، وأصبح بعض الناس يتساءلون هل لنا من توبة، ومنهم من أحرق ما عنده من الصور المحرمة، والأشرطة الفاجرة، ومنهم من تاب من أكل الربا، ومنهم من تاب من العقوق، ومنهم ومنهم، فلما عادت الأمور واستقرت بعض الشيء رجع كثير منهم إلى ما كانوا عليه.

إن هذا في الواقع من التشبه بالكفار والمشركين؛ لأنهم هم الذين لا يعتبرون ولا يتعظون، كما قال الله عز وجل عنهم، لما ذكر عنهم أنهم إذا عذبوا بالنار ورأوا الجحيم، قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] يقول الله عز وجل: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] تصور كيف قسوة القلوب وكثافتها وغلاظتها وجبروتها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] أي أن قلب إنسان يرى النار بعينيه، ويوقف عليها، ويسمع صوتها وزفيرها، ويرى لهبها يتقطع، ويرى سلاسلها وأغلالها، ويوقف عليها رأي العين وليس خبراً، فيقول: يا ليتنا نرد، فلو رد لعاد لما كان عليه قال تعالى: {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] .

ثم إن الله عز وجل قد يستخلف أمة بعد أمم هالكة حتى يعتبروا بمن كان قبلهم من الأمم، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] أي استخلفكم بعد أمم أهلكها ودثرها؛ لينظر كيف تعملون، أتعتبرون بخبرهم أم لا تعتبرون؟! وهذه الجزيرة -مثلاً- كم عاش فيها من الأمم، وكم قام فيها من الحضارات، وكم وجد فيها من الشعوب قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6-9] وقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] كل هذه الأمم وغيرها عاشت في هذه البلاد، وعصوا وأخذهم الله عز وجل واستخلفكم في الأرض من بعدهم لينظر كيف تعملون، بل ما لنا نذهب بعيداً، ونحن نذكر أن هذه الجزيرة نفسها، وقبل سنين وقرون ليست بالطويلة أنها عاشت حياة من الفقر والرعب والخوف والشتات، كانت مضرب المثل فيه، وكان المعروف عند أهل هذه البلاد، أنها تلد ولا تطعم، فإذا ولد فيها المولود؛ ذهب ليأكل في السند أو الهند أو الشام أو مصر أو في غيرها من الفقر والجوع، ومن الخوف والشتات، حتى إذا أنعم الله علينا بهذه النعم، وأسرع إلينا بكل خير، ورزقنا رغد العيش، وأخرج لنا هذه الثروات من باطن، الأرض وأنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واستتب لنا الأمن إذا بقوم منا ينسون ويعرضون، فالله عز وجل يقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] ويقول أيضاً: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26] .

إذاً: هنا كل أرض وطأتها؛ قد مشى فيها قبلك أمم وأجيال وقرون وشعوب كانوا مثلكم، أو أشد منكم قوة، وأكثر منكم صحة، وأمتع منكم في الدنيا، تمتعوا واستمتعوا، أو أكلوا وشربوا وناموا ودرجوا ثم انتهوا وبادوا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015