قد يستدرج الله تبارك وتعالى بعض عباده بالنعم بعد هذا كله، إذاً: الله تبارك وتعالى أهلك جيرانك وبدل عليكم الألوان، والأحوال من قحط إلى رخاء، ومن مرض إلى صحة، واستخلفكم عن غيركم، وصرف لكم الآيات ثم لم يعتبر المعتبر، ولم يتعظ المتعظ، هنا تأتي النهاية- ولننظر كيف تكون النهاية.
النهاية: هي أن الله تبارك وتعالى يمد لهؤلاء القوم في الرزق، وينعم عليهم بأنواع النعيم؛ يستدرجهم من حيث لا يعلمون، كما قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56] وقال: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] أمليت لها وهي ظالمة.
ولذلك قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يملي للعبد، وهو مقيمٌ على معصيته، فاعلم أن هذا استدراج.
هذا هو المقياس: إن رأيت النعم تزداد والطاعة تزداد، فهذا من بركات الله تعالى، ومن بركات السماء والأرض، أما إذا رأيت النعم تزداد والمعاصي تزداد فاعلم أن ذلك استدراج قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] فيأخذهم الله عز وجل بالتدريج، حتى يسترسلوا مع هذا النعيم، فيأخذون أغفل ما كانوا، وأن الله عز وجل يأخذ الأمم على غفلة ولا يأخذ الأمم وهم في حالة صحو ويقظة، فيأخذهم إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون، لأنهم في ألوان النعيم، كل ما يريدونه متوفر، ومع ذلك استرسلوا مع هذا النعيم، وانجروا وراءه وغفلوا، وماتت قلوبهم، أو كادت أن تموت، فأصبحت النذر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم، ومع ذلك قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فأصروا وأقاموا على ما كانوا عليه، فحينئذٍ يأخذهم العذاب، وهم أغفل ما كانوا، إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحىً وهم يلعبون، فهكذا مكر الله، وتأمل هذا مما يخيف العاقل؛ لأن الأمم إذا مرت فيها النذر كلها، واستنفذت الأسباب كلها، ولم تعتبر ولم تتعظ لم يبق إلا العذاب والعياذ بالله، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يوقظ قلوبنا حتى يكون هذا وقاية لنا من عذابه.
الدنيا لا تساوي شيء: روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فالمرحلة مرحلة إملاء، فيملي، ويمد له ويمهله، ويعطيه الدنيا، والدنيا لا تساوي شيئاً عند الله عز وجل، وفي السنن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء} ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ويقول: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب} فالدنيا من آدم إلى قيام الساعة لا تساوي شبراً في الجنة، ولا تساوي جناح بعوضة.
إذاً: ذلك لا يمنع أن الله عز وجل أن يملي ويمهل، حتى إنه يعطي الكافر، فتأتي إلى الكافر فتجده منعم، أصح مما كان، وأغنى مما كان وأقوى ما كان، ومع ذلك يكون، والعياذ بالله مثل الشجرة العظيمة التي إذا انجعفت وسقطت سقطت مرة واحدة لا عهد له بالسعادة، ولا بالنعيم من يوم أن يغادر هذه الدنيا وهو في شقاء أبدي سرمدي على النقيض من المؤمن فإنه قد يجد في هذه الدنيا بعض الكدر، لكن إذا غادر الدنيا فارق الأذى.
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، كانت فاطمة رضي الله عنها، تقول: كما في الصحيح: {واكرب أبتاه} ترى الرسول صلى الله عليه وسلم يتغشاه الكرب وتفصد جبينه من العرق، ويغطي وجهه بخميصة، فإذا أغتم كشفها، فتقول: {واكرب أبتاه فيقول لها صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيكِ كرب بعد اليوم} فهذا آخر ما عليه، وبعدها، ينتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل الآلام، وبعدها لن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا السعادة والنعيم والسرور والفرح والروح والرضا، وإذا كنت تعلم أن عمرك في الدنيا سبعون، أو خمسون أو ستون سنة لكن لو افترضنا أنك عشت الدنيا من آدم إلى قيام الساعة كم الدنيا؟ بعضهم يقول: سبعة الآلاف سنة، ولكن هذا غيب عند الله، لكن لنفترض أنها كذلك عشرة آلاف سنة، أو عشرين ألف سنة، فقس الدنيا كلها إلى الآخرة، موقف الحساب فقط مقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فما بالك بالآخرة.
إذاً: الدنيا لا تساوي عند الله شيء، ولذلك قد يمد للإنسان، ويعطيه، وينعم الله ويوسع عليه بألوان الرزق وإن كان عليه ساخطاً، فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولذلك قد تجد الكافر منعماً وقد تجد المؤمن كذلك، وقد تجد الكافر صحيح الجسم والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر غنياً والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر يملك السلطان والجاه والمنزلة والبلاد العريضة وقد تجد المؤمن كذلك، فهذه الأمور ليست مقياساً، يعطيها الله تعالى المؤمن والكافر، والتقي والفاجر، لكن إذا أخذ الله الظالم لم يفلته، فهذه هي المشكلة: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فيخشى الإنسان إذا أملي ومد له، يخشى من هذا الأخذ، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
الغفلة عند هذه الأمة: ويا أحبتي -مرة أخرى- أقول: أليس من المحزن والمخيف أن هناك أناساً كثيرين لا يسمعون هذا الكلام ويعتقدون أن المقصود به غيرهم من الناس، نحن نريد أن نتحادث، فنحن الموجودين في هذا المسجد، كم واحداً منا يشعر أنه المقصود بهذا الكلام؟ هذا هو الأمر الذي يجب أن نفكر فيه، أما أن نعتقد أن المقصود بهذا أناس آخرون غيرنا، وكأن هذا الكلام لا يعنينا، هذا معناه أننا غافلون، والغفلة هي من أسباب العذاب بياتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون، فينبغي للعاقل أن يدرك أنه هو المقصود بهذا الكلام قبل غيره، وأن عليه أن يتعظ بغيره، قبل أن يتعظ به غيره، فاللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا.
أخرج الترمذي في سننه، وحسنه، وأخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: [[أن رجلاً قال والله لأجدن عهداً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولأكلمنهم، فذهب إلى المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فوجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرين في المدينة فسلم عليهم، وصافحهم وسألهم، وسمع منهم، ثم فقد عبد الرحمن بن عوف، فقال: أين عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: هو بالجرف -الجرف: مزرعة لـ عبد الرحمن بن عوف هو مقيم فيها- فذهب إليه، فلما جاء إليه وجد عبد الرحمن بن عوف قد خلع رداءه وهو يزين الأرض، ويقود الماء بمسحاته، فلما رأى هذا الرجل استحيا منه، فتناول رداءه فلبسه، ثم جاء إليه فسلم عليه، فقال له هذا الرجل: جئت أريد أن أسأل عن أمر؛ فرأيت أمراً أعجب منه، قال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال له: يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل سمعتم ما لم نسمع نحن أو علمتم ما لم نعلم، قال: لا، قال: فإذا لم نسمع إلا ما سمعتم ولم نعلم إلا ما علمتم فما بالكم تزهدوننا في الدنيا، وأنتم ترغبون فيها، وترغبوننا في الجهاد وأنتم لا تخفون إليه، بل ربما تثاقلتم، وأنتم أشرافنا وسادتنا، وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وأئمتنا، قال له عبد الرحمن بن عوف: والله ما سمعنا إلا ما سمعت، ولا علمنا إلا ما علمت، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يضع الحجر على بطنه أياماً من شدة الجوع كانوا يعتقدون أنهم أحسن منهم حالاً يوم أن فتحت عليهم الدنيا، ويوم أن كان -كما ذكر عتبة وسعد وغيرهما- أن الواحد منهم كان في بعض الأحوال يأتي لقضاء حاجته، فإذا حرك الأرض بيده سمع قعقعة شيء، فأخذه، فإذا يبس يأخذه ويحرقه على النار، ثم يستقوي ويشرب عليه الماء، فيستقوي عليه أياماً من شدة الجوع، ويوم أن كان صياح الأطفال، وصراخهم يسمع من وراء الشِعب من الجوع والحرمان، كانوا يحسون أنهم أقوى منهم من يوم أن فتحت عليهم الدنيا ووسع الله تعالى عليهم الرزق، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من تواضعه، وقوة؛ إيمانه كان يقول: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] وهم رضي الله عنهم لم يغيروا ولم يبدلوا، لكن كانوا يحسون بأن ذروة إيمانهم في حال الشدة كانت أقوى وأعظم.
ولذلك -أيضاً- يذكر عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أنه في مرة من المرات قُرِّبَ له عشاؤه، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم وكان فيه من ألوان الطعام ما فيه، فلما قرب إليه وضع خده على يده ثم تأمل قليلاً، ثم أجهش بالبكاء حتى رثى له من حوله، وقالوا له: ما لك يرحمك الله؟ فلم يستطع أن يخبرهم، وأمر برفع المائدة، فلما رفعت، وعادت إليه نفسه، قال: إني تذكرت أخي مصعب بن عمير رضي الله عنه كان خيراً مني، ومع ذلك مات ولم يأخذ من أجره شيئاً حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه فيه حين مات إلا بردة لا تكاد تستره، إن غطوا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطوا رجليه ظهر رأسه، يقول: فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
فهو يخشى أن الله عز وجل لم يقبل منه هذا العمل، فرده عليه، وأنعم ع