أخيراً فإن من آفات القراء: العزلة عن المجتمع وشئونه وشجونه، فإن الإنسان قد يجد لذة كبيرة في المعاملة مع الكتب، كما كان الشاعر يتمدح بذكر الكتب ويقول: لنا جلساء لا نمل حديثهم الباء مأمونون غيباً ومشهداً والآخر يقول: وخير جليس في الزمان كتاب المعاملة مع الكتب مريحة، إن شئت تقرأه وإن شئت تدعه، إن قبلت منه شيئاً وإلا رددته، فهو أصم، ولذلك قد يرتاح طالب العلم في المعاملة مع الكتب والقراءة والبحث، ويغفل عن مهمته في واقع الحياة والمجتمع؛ لأن كل علم إنما ثمرته العمل به والدعوة إليه.
فإذا كان حظ الطالب من العلم هو تحصيله في نفسه فيموت هذا العلم بموته، فحينئذٍ لم يحقق ما يتطلبه منه العلم.
فالجدير بطالب العلم أن يختلط بالناس؛ ليس اختلاط الإنسان الذي يريد فقط أن يتبسط مع الناس، أو يمزح معهم، أو يسري عن نفسه، لا.
اختلاط الإنسان الواعي الذي يريد أن يؤثر في الناس ويوجههم ويعرف عيوبهم ليتقيها ويحذر منها، أي قد يتحدث اليوم اثنان من الناس عن عيب من العيوب، أو عن أمر من الأمور الشرعية، فيتحدث أحدهما حديثاً شرعياً يذكر الآيات والأحاديث، وأقوال أهل العلم، وفوائد هذا الأمر أو مضاره وينتهي، فيكون حديثه على فائدته غير مرتبط بالواقع.
ثم يأتي إنسان آخر: يعيش الواقع فتجد أنه يربط حديثه بمشكلات الناس، وواقع زمانه، وما يعانونه، فيجد الناس البلسم والشفاء لمشاكل حياتهم في مثل هذه الأحاديث.
وطالب العلم ينبغي أن لا يحكم طوق العزلة على نفسه وعن المجتمع؛ بل يجعل ما يواجهه في المجتمع مادة للتوجيه والحديث وربط القضايا الشرعية بواقع الأمة.
وما أحوج الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها إلى من يجمع بين العلم الشرعي المتمكن، وبين المعرفة القوية الدقيقة بالواقع بحيث يستطيع أن يحل مشكلات الواقع على ضوء الكتاب والسنة!! ويستطيع أن يطبق نصوص الكتاب والسنة على واقع الناس فما يستطيعون أن يفعلوه، ما أحوج الناس إلى مثل هذا العالم! وقد ذكرت كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم في واقع حياته؟! كان عليه الصلاة والسلام يعرف أوضاع الناس؛ بل ربما أقول أوضاع العالم السياسية وغيرها، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة مهجراً لأصحابه؛ لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد، كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره وهو صحيح.
وكان يعرف ما يقع في فارس والروم ومصر وغيرها، ولذلك راسلهم، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسري وإلى قيصر وإلى المقوقس وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس فقط النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل يعرف حتى القضايا الأدبية والشعرية؛ لأنه كان يغشى الناس في أسواقهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز.
ويعرف كثيراً عن أوضاعهم الاجتماعية، وبالمقابل كان يعرف صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبعثه الله عز وجل يعرف شيئاً مما كان عليه الأنبياء السابقون والله أعلم.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا حج قبل البعثة، تقف قريش يوم عرفة بالمزدلفة، لأن قريشاً يقولون: لا يمكن أن نقف مع الناس ونحن أهل البيت وسدنته، فكانوا يقفون بالمزدلفة، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير وثبير) هو: جبل معروف بالمزدلفة، والناس يقفون بعرفة، فكان صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس، ولذلك قال عبد الله بن عدي كما في الحديث الصحيح في جامع الترمذي وغيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة، فقال: {هذا من الحُمْس} والحمس: لفظ يطلق على قريش لتحمسهم في دينهم، {هذا من الحمس، فما باله واقفاً هاهنا} لماذا لا يقف مع قريش بالمزدلفة.
وكذلك في صحيح البخاري وغيره أنهم لما كانوا يبنون البيت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة على كتفه، فتأثر كتفه فأمره العباس بن عبد المطلب أن يرفع إزاره ليقي كتفه من الحجارة، فرفعه فبانت عورته عليه الصلاة والسلام وسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رؤى متعرياً بعد ذلك قط، وقد يقال: إن هذا أمر هيئه الله تبارك وتعالى له لما كان يعد له من أمر الرسالة.
المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف واقع الناس الذين يريد أن يدعوهم، وهكذا ينبغي أن يكون المقتدون به.
وفي الختام: حين أذكر هذه الآفات: فإنها ليست إلا قطرة في بحر فضائل القراء وحسناتهم، فإن هؤلاء القراء هم خير الناس، وقد قيل لبعض الأئمة: ألم تر إلى أهل الحديث؟ كيف هم، وكيف فسدوا؟! فقال: هم على ما هم خيار القبائل.
وأمر عمر بن عبد العزيز بتولية الفقهاء، فقال له بعض من حوله قد وليناهم فوجدناهم خونة؟ فقال: ويحك، ولهِّم فإن كانوا خونة فغيرهم أخون، ونحن جميعاً -إن شاء الله تعالى- ندين الله بحب أهل العلم، وأهل القرآن والحديث خاصة، ونعتقد أن هذا قربة وطاعة لله تبارك وتعالى، وأن حبهم دين وإيمان، وأن بغضهم نفاق، لكن هذا لا يمنع من التناصح فيما بيننا، وإن يبين كل إنسان منا ما يعلمه في إخوانه من العيوب، والمؤمنون نصحة وكما قيل: وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.