الآفة الثانية: أنك تجد بعض القراء إذا بدأوا في طلب العلم وتحصيله، وحصلوا من ذلك قسطاً لا بأس به، خيل للواحد منهم أنه قد احتقب العلم بحذافيره، فأصبح يتكلم في دقيق العلوم وجليلها كلام العالم المتبحر وينبغي أن نفرق في هذه المسألة أيضا بين نوعين: الأول: أنه من الممكن أن يقوم زيد من الناس ببحث مسألة من المسائل -أياً كانت- خاصة المسائل الموجودة في الكتب، مسألة ففيهة -مثلاً- أو عقائدية أو لغوية، ويرجع إلى المصادر المعتمدة في هذه المسألة، ويجمع أقوال أهل العلم وأدلتهم، ويرجح، فيصل بعد الترجيح إلى نتيجة معينة، وهذه النتيجة قد يعرضها على بعض أهل العلم فيرتضونها ويقرونه عليها، حينئذٍ قام هذا الطالب وعرض هذه النتيجة على الناس لا بأس بذلك، لكن بعد هذه المرحلة وفى هذه المسألة بالذات، فرق بين هذا وبين إنسان لا يترك مسألة إلا هجم عليها، ولا يسأل عن سؤال إلا أجاب بخطأ أو صواب.
ولعلكم جميعاً تعرفون القصة التي يذكرها بعض اللغويين وغيرهم؛ بل وبعض المتكلمين في الآداب والأخلاق يزعمون -وهي أسطورة، ولكن بعض الأساطير لها تعلق بالواقع- يزعمون أن رجلاً لغوياً كان لا يسأل عن كلمة إلا بين معناها واستدل عليها بأحاديث، وبأبيات من الشعر، وأقوال العلماء وغير ذلك، فشعر تلاميذه بأن هذا الرجل ليس دقيقاً فيما ينقل، وأنه قد يختلق بعض الأشياء وينسبها إلى غيره، فاتفق التلاميذ على أن ينحتوا كلمة مختلقة ليس لها معنى موجود في اللغة العربية ويسألونه عنها، فاجتمعوا وتبرع كل واحد منهم بحرف فألفوا من ذلك كلمة كانت هذه الكلمة هي كلمة "الخنفشار" فجاء أحدهم إلى هذا الشيخ، وقال له: يا شيخ! ما هو الخنفشار، قال الشيخ: بعد أن حمد الله وأثنى عليه " الخنفشار" هو نبات ينبت في أطراف اليمن وفيه كذا، وفيه كذا ألم تسمعوا إلى قول الشاعر: لقد عقدت مودتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يكفي هذا يا شيخ بارك الله فيك! ما دام المسألة وصلت إلى حد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ أوقفوه وبينوا له الأمر.
فأقول: كون الإنسان يهجم على كل مسألة وكل شيء هذا ليس بلائق، ومن إعانة الناس -فأحياناً- الناس هم الذين قد يفسدوا العالم أو طالب العلم؛ لأن طالب العلم يسير سيراً معتدلاً فيقبل الناس عليه ويصبحون يسألونه عن كل شاذة وفاذة، وشاردة وواردة.
فمن الصعب جداً على الإنسان أن يقف أمام الناس فيسأل عن عشرين سؤالاً أن يقول عن عشرة منها على الأقل: لا أدرى أو الله أعلم، فهذه قد حدثت مع الإمام مالك حين رحل إليه رجل بأربعين مسألة، فأجابه عن ثماني مسائل منها، واعتذر عن اثنتين وثلاثين مسألة، فقال له السائل: ماذا أقول للناس؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك: الله أعلم، لا أدرى!! فالناس أحياناً: قد يخرجون طالب العلم عن طوره، بكونهم يضعونه في غير موضعه، ولذلك قال بعض السلف: "إن وقع الأقدام خلف العالم، مزلة لعقول الحمقى" أي: إذا صار العالم يمشي وطلابه خلفه يسيرون؛ كان هذا سبباً في استخفافه إذا كان أحمق، وخروجه عن طوره، أما العالم الرباني: فإنه يعلم قدر نفسه، ولا يغتر بإقبال الناس أو ثنائهم عليه أو كثرة ماءلتهم له، ومما ينبغي أن يعرف في هذا الباب: أن مجرد الإطلاع على المسائل والكتب لا يكفي وحده في تحصيل العلم؛ بل لابد من شروط فطرية عند الإنسان، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها الإمام الجويني في كتابه الذي سماه "غياث الأمم في التياث الظلم" ذكر في هذا الكتاب ضمن فوائده الغزيرية كلمة سماها (فقه النفس) : وهو التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، -كما يعبر- وهو أنفس صفات علماء الشريعة، والذي أظن أنه يقصد في فقه النفس: أولاً: وجود ملكة للاستنباط عند القارئ أو المتفقه؛ بحيث إن عنده عقلية جيدة قابلة للتفقه والتعلم.
ثانياً: التمرس والتدرب على الترجيح والاستنباط بحيث يتدرب الإنسان على الاستنباط في ظل بعض العلماء الذين يصححون له، حتى يشب عن الطوق، ويصبح لديه إمكانية الاستقلال في الاستنباط والاستخراج والترجيح والتصحيح وغير ذلك.