ازدراء الناس وتتبع أخطائهم

كثير من المتعلمين قد يصابون بشيء من الكبر: وهو سبب لكل داء، فمن الأدواء التي تترتب على الكبر ازدراء الناس واحتقارهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -في تفسير الكبر أنه-: {بطر الحق وغمط الناس} .

وفى رواية: {غمص الناس} ومعنى غمط الناس: أي بخسهم حقوقهم وازدراؤهم واحتقارهم فهذا مظهر من مظاهر الكبر، وأنت تجد المصاب بهذا الداء يشتهي دائماً أن يقع في عيوب الناس وأخطائهم، وخاصة من ينافسونه في عمله -من العلماء وطلاب العلم- فتجده يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، والكتاب الفلاني فيه كذا.

فلا يذكر عنده شخص أم كتاب أم عمل إلا حاول أن يجد فيه عيباً، ويبخسه حقه ببعض اللمزات والكلمات، وكأن لسان حاله يقول: أنا المتفرد بالصواب والسلامة من الأخطاء، أما فلان فقد أخطأ في كذا وفلان أخطأ في كذا، والكتاب الفلاني فيه من الأخطاء كذا وكذا، وكتبي هي وحدها السالمة من الأخطاء والعيوب؛ فهذا ليس مقاله؛ بل لسان حاله.

فلو بحثت في نفسيه من يكثرون من الوقوع في طلاب العلم والعلماء وتشهير أخطائهم، ومحاولة البحث عن زلاتهم لإذاعتها ونشرها، لوجدت أنهم ينطلقون من نفسية مصابة بداء الكبر! ومن عايش مثل هذه النوعيات من الناس، يجد أن القضية عندهم ليست قضية نقد وتقويم؛ لأننا -معشر المسلمين- عندنا مبادئ للنقد والتقويم عرفناها من القرآن والسنة، وورثناها من سلفنا الصالح: وهى أصول واضحة لا يمنع أن يقوَّم العالم فيبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية؛ لكن! مع حفظ حقه.

إذاً: من هو الذي لا يخطئ مرة أو عشرة أو مائة؟!.

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وأي كتاب ليس فيه خطأ إلا كتاب الله تعالى؟! أما ما عداه فلا يسلم من نقص يقول بعضهم: إلا صحيح البخاري ومسلم.

وأقول: مع الاعتراف بأن جميع ما في البخاري ومسلم من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه صحيح؛ إلا أنه من حيث أنه كتاب لا يمكن أن نصفه بالكمال المطلق.

مثلاً البخاري -رحمه الله- أحياناً يقول: باب ثم لا يضع تحته حديثاً، لماذا؟ قد نقول أنه أتته المنية قبل أن يضع أحاديث!! وقد يقال أي شيء آخر، المهم: أن الخطأ والنقص في التبويب، والترتيب، والتصنيف، وفي التقديم، والتأخير، هذا واردٌ على كل كتاب، ولا يمكن أن نصف كتاباً بالكمال المطلق إلا كتاب الله عز وجل، مع تسليمنا بأن ما في الصحيحين من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة؛ أنها صحيحة!! فأقول: هناك فرق بين مبدأ النقص والتقويم المنصف، وبين شهوة ازدراء الناس والحط من أقدارهم.

فالتقويم: يحفظ الناس حقوقهم، فأنت تبين -مثلاً- أن هذا العالم له من الفضائل كذا وكذا، وله من المصنفات كذا وكذا، ثم لا يمنع أن تبين مع جلالة قدره، فإن الله عز وجل أبى أن تكون العصمة إلا لرسله، فهذا العالم انتقد في كذا وكذا وهذا لا ينقص من قدره؛ بل كفاه نبلا أن تعد معايبه.

فرق بين هذا الأسلوب في النقد والتقويم الذي يضع الأمر في نصابه، وبين الذي يفرح بكل زلة لعالم حتى يحط من قدره.

فهل يستوي عنده أكابر العلماء وصغار الطلاب؟ لأننا نعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة فإن كانت هذه الزلة سوف تسقط هذا العالم، معناه: أنه لم يبق لنا أحد من العلماء نأخذ عنه ونقتدي به، فهذا هو بطر الحق، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.

وانظر وقارن بين صورتين في هذا الموضوع.

الصورة الأولى: ما ذكره ابن عساكر [[عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري تعظيماً له وتوقيراً، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا]] وابن عباس وهو من هو في جلالة قدره وسعه علمه وفقهه في الدين، ومع ذلك يأخذ بركاب زيد بن ثابت، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا، فهذه صورة المتواضع في معاملة العلماء من شيوخه أو أقرانه، أو من هم دونه.

ويقابل هذه الصورة صورة أخرى ذكرها الخطابي -في الموضع الذي أشرت إليه في بداية المحاضرة- قال: إن عبد الله بن المبارك رحمه الله زار رجلاً من أهل نيسابور -كان يوصف بالعلم والزهد والتقشف- فلم يلق هذا الرجل لـ عبد الله بن المبارك ولم يلتفت إليه، فلما خرج عبد الله بن المبارك من عنده، قيل لهذا الرجل: أتدري من هذا الرجل الذي دخل عليك؟! قال: لا، قيل له: هذا عبد الله بن المبارك فتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعرفه، ثم خرج ولحق به، وقال: سامحني! فإنني لم أكن أعرف أنك عبد الله بن المبارك، فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، قال هذا الرجل: عظني، قال: أعظك إذا خرجت إلى السوق فلا تقابل رجلاً من المسلمين إلا وظن أنه خير منك؛ لأن عبد الله بن المبارك لمح في هذا الرجل شيئاً من الغطرسة والكبر فأدبه بهذا الأدب، حتى يعالج هذا الكبر الموجود في نفسه.

فطالب العلم يحتاج إلى أن يعرف للرجال حقوقهم وأقدارهم وفضلهم، وألا يكون وقوع الخطأ عند عالم منهم مدعاة إلى سقوطه من عينه وهذه قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان فيها متوازن، فلا يتابع الإنسان الآخرين على أخطائهم -من باب التوقير والإجلال- لا ولكن! لا يكون وقوع الخطأ من أحدهم مدعاة إلى التشهير به، والحط من قدره وازدرائه وبخسه ماله من الفضائل والمكارم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015