من آثار الكبر وثماره السيئة: مشاهدة الإنسان نفسه، وأعني: أن الإنسان يرى نفسه (طالب العلم) شيئاً ذا بال؛ فتجده في مظهره ومخبره وحديثه وأسلوب معاملته للناس مختالاً مزوراً معرضاً عنهم؛ لما يرى في نفسه من فضل عليهم؛ وهذا قد يظهر على فلتات لسانه تجد بعض الناس، إذا تحدث - وهذا موجود في كثير من الناس في جميع طبقات الناس- لكن الحديث الآن عن آفات القراء: تجد من القراء إذا تحدث، أو كتب يستخدم عبارات العلماء وكأنه عالم فحل يشار إليه بالبنان، فيقول: -مثلاً- (وأنا وأنا) ويكثر من هذه "الأنا" القاتلة، أو تجده يكثر من كلمة (عندي) عندي أن الأمر كذا وذلك في حديثه أو في تصنيفه وتأليفه، أو يكثر من: (ولي من المصنفات كذا، ولي من الأعمال كذا وكذا) .
وما أجمل الكلمة التي قالها الإمام ابن القيم رحمه الله -في آخر صفحة من الجزء الثاني من زاد المعاد -حيث قال وهو يتحدث عن الحذر من الألفاظ المكروهة والممنوعة، ختم حديثه بقوله: وليحذر كل الحذر من طغيان: أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون، وقارون، فأما إبليس فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] .
وأما فرعون فكان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] وأما قارون فكان يقول: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] قال رحمه الله: وأفضل ما وضعت فيه هذه الألفاظ في نحو قولك: لي الذنب، ولي الجرم، ولي الإثم، ولي الذل.
وأفضل ما وضعت فيه (أنا) نحو قولك: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحو ذلك.
وأفضل ما وضعت فيه (عندي) اللهم اغفر لي خطئي وهزلي وعمدي وجدي وكل ذلك عندي، وهذه الكلمة مقتبسة من الحديث المتفق عليه عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن الألفاظ التي يجدها القارئ اليوم في بعض الكتب التي انتشرت في هذا الوقت: أن كثيراً من الطلاب قد يكون بإمكانه أن يحقق كتاباً، أو يؤلف بحثاً في موضوع ما، وهذا الأمر أصبح ميسوراً لتوفر الكتب والدراسات، فإذا عرف الإنسان طريق البحث والتخريج واستطاع أن يجمع عدداً من المخطوطات -مثلاً- ويحققها، ويخرجها للناس، ويعلق عليها بتعليقات مفيدة، لكن الشيء المنتقد ليس هذا! لكن أن تتسرب إلى بعض هذه المؤلفات عبارات -إن كانت لائقة بالعلماء فليست لائقة بالقراء- مثلاً كما يقول بعضهم بعد أن ينقل أقوال العلماء: (قلت) وكأنه الإمام أحمد أو أبو حاتم الرازي أو أبو زرعة الرازي أو الدارقطني وغيره.
بل إن منهم من ينقل أقوال هؤلاء العلماء ويعقب عليها بقوله: (قلت: أخطأ فلان وأخطأ فلان) وقد يسوق لك أقوال عدد من العلماء أذكر منهم في أمثلة واقعية، -مثلاً- إماماً كـ الدارقطني إمام من أئمة الدنيا في معرفة الحديث وعلله وأسانيده، فتجد الواحد ينقل كلام الدارقطني فيقول: الدارقطني بشر، يخطئ، ويصيب، فيخطئه.
وبعضهم يعبر ويقول: أخطأ الدارقطني، ونحن لا نقول إن الدارقطني لا يخطئ فهو بشر، لكن! هذا ليس أسلوباً وإن فرض -فعلاً- أن الدارقطني خالف غيره من العلماء في مسألة يرد عليه بكلام أهل العلم، ويقال: الدارقطني إمام ولكن خالفه من هو أعظم منه وأعلم منه وهو فلان.
وتجد بعضهم يستعملون ألفاظاً فخمة: قرأت في أحد الكتب -مثلاً- أن محقق هذا الكتاب يمدح عالماً من علمائنا في هذا العصر ويثني عليه، حتى يقول: ولو حلفت بين الركن والمقام أنه لم تر عيني مثله ولم ير هو مثل نفسه لرجوت ألا أحنث!! معقول أن يقول الذهبي مثل هذه الكلمة في ابن تيمية لكن من غير المناسب في نظري أن يقولها طالب علم، وإن كان له مكانة في العلم، وعنده شيء من التمكن؛ لأنه كم رأت عينك من العلماء الفطاحل الذي تقول: ما رأت عيني مثل فلان منهم ولا رأى هو مثل نفسه، أو يقول -مثلاً- وما أسفت على شيء أسفي على أنني فاتني لقيا فلان وفلان من العلماء، حيث ماتوا قبل أن يلقاهم، وكأنه قد لقي الشيوخ وجمع الأسانيد والتقى بأعداد كثيرة من العلماء.
وهذه الأساليب قد تنم عن نوع من التعالم كما سماه الشيخ الدكتور الباحث بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه المفيدالتعالم وأثره على الفكر والكتاب، فمثل هذه العبارات تنم عن نوع من تعجل التصدر والتمشيخ، وشعور الإنسان بأنه أصبح شيئاً يرى، وكلما استطاع طالب العلم أن يتحرر من هذه الألفاظ كان أجدر.
وهذه الأمثلة التي ذكرت لست أعني بالضرورة من استعملوها؛ لأن الإنسان قد يلاحظ أن بعض هذه العبارات تتسلل دون علم الإنسان؛ لأنك إذا قرأتها في كتاب وربما يكون من أشرت إليهم جاءت على لسانهم عفواً دون أن يقصدوا.
ولذلك أحببت التنبيه إليها، حتى يتجنبها الطالب وينتبه إليها.