رخص الفقهاء

وهناك نوع آخر من الرخص وهي رخص الفقهاء، أي لكل مذهب تسهيل في مسائل، فمثلاً تجد في مذهب هذا حلال وهذا حرام، إذاً الحلال يعتبرونه رخصة، لكن في المذهب نفسه ممكن أن يحرم مسألة أخرى يبيحها المذهب الأول، وهكذا تجد بعض الناس يأتي إلى المذهب يأخذ ما فيه من الرخص، فكل ما فيه من تحليل في هذا المذهب يأخذه، وكل ما فيه من تحريم يتركه، ثم يأتي إلى المذهب الآخر فيأخذ كل ما فيه من تحليل، ويترك ما فيه من تحريم، وهذه أيضا مسألة خطيرة، فهي عبارة عن تلفيق مجموعة من الآراء بغير ضابط، إلا بمجرد أنها رخص، ليس فيها مشقة على النفس، ولا تكليف لكنها تناسب المزاج، وخاصة مزاج الكسالى والقاعدين، والذين لا يحبون أن يعملوا، ولا أن يخضعوا حياتهم لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يصل الحال ببعض هؤلاء الذين لا يراقبون الله تعالى ولا يخافونه، أن يصنفوا مصنفات يجمعون فيها رخص بعض العلماء، وأن فلاناً رخص في كذا، وفلاناً رخص في كذا، فيجمعون في هذا كتباً وينشرونها عند العامة، حتى يتساهلوا في هذه الأمور، ويعجبني في هذا القصة التي ذكرها البيهقي وغيره.

قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه رخص بعض العلماء من غير تثبت ولا نظر ولا مقارنة ولا ترجيح، قال: فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت: مصنف هذا الكتاب زنديق -هكذا يقول للخليفة- فسأله الخليفة لماذا؟ قال له: هذه الأحاديث التي ذكر لم تصح على ما رويت، فمن أفتى مثلاً بالمتعة لم يفت بإباحة الغناء والمسكر، وصاحب الكتاب قال لك: الغناء حلال، وأهل المدينة أباحوه، والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوه، المتعة بالنساء وهي معروفة.

وقال له: الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها، وبالمناسبة المعتضد أمر بإحراق الكتاب هذا، ما دام أن مؤلفه زنديق، وهذا شأنه يحرق، ويقول بعضهم: ما أحوجنا إلى نار المعتضد لتحرق كتباً من هذا القبيل! وأرى أن هذا ليس بلازم، فحسبنا عقول هذه الأمة وأفهامها ومداركها ووعيها، فإنها هي النار التي سوف تحرق كل باطل ولن يصفو إلا الكلام الصحيح بإذن الله تعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015