الواقع له سلطان على النفوس

والواقع لا شك أن له سلطاناً على النفوس أيضاً، من جهة أنه تتصور بعض النفوس صعوبة تغيير هذا الواقع، وصعوبة إزالته أو تحويله إلى واقع آخر يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبعضهم قد يدخل هذا في باب الضرورات، ويقول لك: يا أخي هذه ضرورة.

لكن ما حدود الضرورة؟ نحن نقبل بالضرورة، والضرورة لها أحكام، لكن لها ضوابط أيضاً، فليس كل شيء ظن الإنسان أنه يحتاجه أصبح ضرورة، بل للضرورة ضوابط وشروط، لا بد من تحققها فإذا تحققت هذه الضرورة فإنه يعمل بها في إطارها، وتقدر الضرورة بقدرها، دون أن يتعدى بها هذا الإطار إلى الناس كلهم بشكل عام، فالناس قد يقعون في المعصية ولكن مع الوقوع؛ ينبغي أن يكثر الإنسان من الاستغفار، وألا يتحول الأمر إلى أنه يبحث عن أمر يحلل له هذه المعصية، ففرق بين من يعصي ويقول: أستغفر الله والله غفور رحيم، قد يغفر الله تعالى له، لكن أن يقع في المعصية ثم يذهب يبحث في بطون الكتب عن نص يبيح له هذه المعصية فلا.

وهل أنت تتعامل مع الله عز وجل بهذا؟ الله تعالى هل سوف يسألك أنك وجدت في كتاب معين، أو في قول عالم، أو في قول متكلم أو في قول إنسانٍ ما، أن هذا الأمر حلال؟! إن الله عز وجل يحاسبك على حسب ما أوصل إليك من كتاب أو سنة، إما آية محكمة، أو سنة ماضية ثابتة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا هو

Q ماذا أجبتم المرسلين؟ إذا عجزنا عن ترك معصية وقعنا فيها كأفراد لا يبيح لنا أو يسوغ لنا أن نذهب للبحث عن تحليل لهذه المعصية، عَجزنا كأمة أو مجتمع عن تغيير بعض المنكرات الواقعة، من سفور، واختلاط، وربا، لا يجعلنا نذهب نبحث عن تحليل لهذا الأمر، بل نقول للحرام: هذا حرام وهو موجود، ونسأل الله أن يعيننا على إزالته، ونبحث عن الوسائل والأسباب، ولو فُرض أننا عجزنا نقول: يأتي الجيل القادم فيجعل الله تعالى تغيير هذا المنكر على يده، أما أن نتحول من العجز عن التغيير إلى البحث عن مرتبة أقل من ذلك، وهي محاولة إقناع أنفسنا بأن هذا الوضع أو هذا الحكم الذي سرنا فيه أنه مباح، فإن هذا تأخر لا يرضاه المؤمن لنفسه.

أرأيت -مثلاً- لو تصورنا وجود اليهود في إسرائيل جائزاً وهذا مثال بعيد، لكن للتمثيل فقط، قد يكون المسلمون عجزوا في هذا الوقت بسبب أوضاع كثيرة جداً، عن إخراج اليهود من أرض المسلمين، نحن نقول: عجزنا لكن هناك أجيال بعدنا ستأتي وستخرج اليهود حتماً كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما جريمتنا نحن لو أقررنا اليهود على هذا الأمر وأعطيناهم وثيقة أن لهم جزءاً من فلسطين، بحجة أننا عاجزون، فأصبح وجود اليهود وجوداً يعني -كما يعبرون- شرعياً، بمقتضى موافقة المسلمين، معنى ذلك أن هذه خيانة للقضية، فالصحيح أن نقول: نحن عاجزون عن هذا الأمر وإسرائيل واقع، نعم واقع ولا نتجاهله، ولكننا مع ذلك لا نعترف بهذا الواقع أنه واقع صحيح، بل نقول: إن هذا كفعل اللص لو دخل بيتاً واحتله، وعجز صاحب البيت عن إخراجه، فإنه يقول: سيأتيك أولادي بعدي فيخرجونك، أو تأتيك الشرطة فتخرجك، لكن لا يبقى البيت لك، ولا يصبح لك لأنك كنت لصاً قوياً متسلطاً مدعوماً من الشرق أو الغرب، وقد ظن بعض الناس أن هذا الباب -باب تغيير مراعاة الواقع- أنه يدخل في باب تغيير الفتوى، وقد يحتجون بكلام لـ ابن القيم رحمه الله في هذا الباب، والواقع أن هذا في وادٍ وكلامهم في تغيير الفتوى في واد آخر، أي أن هناك شيئاً اسمه تغيير الفتوى هذا موجود تكلم فيه ابن القيم، وما هو تغيير الفتوى؟ كيف يتكلم الناس في الشرعيات وهم لا يعرفون المقصود، حتى المصطلحات غير معروفة لديهم!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015