وهناك شيء آخر يخلط بعض الناس الذين ليس لديهم اختصاص، بينه وبين تغير الفتوى، وهو مسألة اختلاف اجتهاد المجتهد، أي أن عندنا عالماً أفتى بأن هذا الأمر حرام، وغداً بعدما بحث واستقصى غير رأيه، وقال: أنا أرجع عن قولي بالأمس، فالأمر الذي كان بالأمس حراماً، تبين لي الآن أنه حلال.
هل نسمي هذا تغير الفتوى؟ لا يسميه العلماء تغير الفتوى أبداً، وإن كان الذين صنفوا ممن لا علم لهم ظنوا هذا من باب تغير الفتوى.
هذا في الواقع من باب اختلاف اجتهاد المجتهد، والمجتهد قد يبدو له اليوم ما لم يكن بدا له بالأمس، وقد يرى اليوم مباحاً ما كان يراه بالأمس حراماً، وعليه كلما بدا له حكم جديد أن يبين ذلك للناس بالدليل.
والسلف من الصحابة رضي الله عنهم تغيرت فتواهم في مسائل كثيرة جداً، يفتي أحدهم بشيء ويبدو له خلافه ويرجع عنه، بل كان من العلماء من يفتي بمسألة ومن الغد يرجع عنها، فيبعث أحداً يقول في الأسواق: من كنا أفتيناه بكذا وكذا فليأتنا فقد تغير رأينا في هذه المسألة.
فمسألة اختلاف اجتهاد المجتهد تختلف جذريا عن مسألة تغير الفتوى، ومن العجيب أن بعض الناس يخلطون بينهما، فمثلاً من باب تغير الفتوى أن الساعة هذه التي تلبس في اليد، بالأمس كان هناك من يعتقد أنها سحر ويشك في ذلك، واليوم لا يوجد من يعتقد ذلك، هذا المثال أقرب للسخرية منه إلى الكلام العلمي الرصين المحقق، هل وجد من العلماء من قال إن الساعة سحر؟ كون بعض العوام اشتبه عليهم الأمر لأنه أمر جديد فكتب أحد العلماء كتاباً يبين أن الساعة صناعة وليست سحراً، ويزيل اللبس الموجود عندهم هذا شيء، لكن كون أحد من أهل العلم المحققين المعترف بهم قال إن الساعة سحر، هذه في الواقع سخرية بالعلماء.
من أمثلة تغير الفتوى مسألة الرقيق، وأن الرقيق كان بالأمس يسترق وأفتى العلماء بتحريم الرقيق، ونقول: لم يفت أحد من العلماء في الواقع بتحريم الرقيق مطلقاً، لأن الرق حكم شرعي باقي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ظاهرة مؤقتة لكنه ظاهرة مرهونة بأسبابها، فالرق في الإسلام ليس عن طريق سرقة الناس وبيعهم، إنما الرق عن طريق جهاد شرعي يسترق المسلمون فيه الكفار، هذا هو الرق في أصل منشأه الشرعي، وهو باقٍ أمس واليوم وغداً، وكونه اختفى لسبب أو لآخر، أو الناس حرروا أرقاءهم، أو تبنت الدول تحريرهم شيء آخر، ولا يعني أن الحكم الشرعي تغير، فالحكم الشرعي باقٍ، وآيات القرآن محكمة في هذا الأمر وليست منسوخة، ولا أحد يستطيع أن يمسحها من المصحف.
إذاً: مسألة الخضوع لضغوط الواقع هي من أخطر المسائل، التي تجعل الناس يطوعون نصوص الشرع لأمزجة البشر، ونحن نقول: الدين ولله الحمد يسر كله، والرسول عليه الصلاة والسلام بعث بالحنفية السمحة، وبعث ميسراً لا معسراً، والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، والفقهاء يقولون: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وفي ذلك كلام كثير يطول، لكن المقصود أن هذا لا يعني بحال التحلل من قيود الدين وأحكامه بحجة مراعاة الواقع أو ظروف أو ضغوط الواقع أو ما أشبه ذلك، والفتوى تتغير باختلاف عوائد الناس التي تبنى عليها الفتوى، أما حكم الله ورسوله فلا يتغير بحال من الأحوال.
أقول: هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.