أيها الإخوة: أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية مما لا يحتاج إلى بيان، ذلك أن المفتي والمتكلم في أحكام الدين لا يعطينا رأيه الخاص، ولا وجهة نظره الشخصية، ولم نكن نحن نسأله عن مزاجه أو عن هواه، إنما هو يُسْأل عن حكم الله، أو حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الواقعة، أو النازلة، أو المسألة، ولذلك عبر الإمام القرافي -وهو من فقهاء المالكية وأصولييهم- عن المفتي بأنه ترجمانٌ عن الله تعالى، فإنه مترجم للنص الشرعي، وقد كان الإمام ابن القيم رحمه الله أكثر تسديداً منه حينما وسم كتابه الشهير بـ " إعلام الموقعين عن رب العالمين "، فاعتبر أن المفتي أو المتكلم في مسائل الشرع كأنه موقع عن الله تعالى، فهو بمثابة الوزير الذي يجعله الحاكم أو الملك يوقع عنه بعض الرقاع، والأوراق.
فالمفتي موقع عن رب العالمين، ومخبرٌ عما يعتقد في الظاهر أنه حكم الله ورسوله في مسألة معينة، أو في موضوع، أو نازلة ألمت بالناس.
ومن هذا المنطلق قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي ذكرته آنفاً، قال: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات! أي هو منصب عظيم وكبير، وهو في نفس الوقت شرفٌ لمن يتسلم هذا المنصب، ومسئولية عليه أيضاً، ولذلك كان الله عز وجل في كتابه يتولى الإفتاء بنفسه في بعض المواضع، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176] فأفتى عز وجل بنفسه ونسب هذا الفعل لذاته المقدسة الشريفة.