كان السلف يدرءون الفتيا ما استطاعوا ويحاولون أن يتخلصوا منها، ويسندوها إلى غيرهم.
والكلام في نقل أقوال السلف في التحذير من الفتيا بحد ذاته يأتي في مجلدٍ كامل، لكن لو رجعت إلى مصدر واحد فقط للإطلاع، كسنن الدارمي مثلاً باب: من هاب الفتيا، تجده قد نقل في ذلك نصوصاً كثيرة أذكر منها نصين.
الأول: منها عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من التابعين الثقات المعروفين، أنه سُئل فقال: [[لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم رجل يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا]] مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كبارهم، وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك كانوا يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ويكفيه الحديث.
النص الثاني: الذي نقله الإمام الدارمي هو أن الشعبي رحمه الله سئل كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم عن فتيا أو مسألة؟ قال: على الخبير سقطت أو وقعت -أنا خبير بهذا- كان السائل يسأل أحدهم في المجلس فيقول لصاحبه: أفته أفته، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول، كأن السائل يأتي في حلقة كبيرة كل واحد منهم يحيله إلى الآخر حتى يعود إلى أول شخص سأله، وغالباً ما يكون هذا المتصدر للحلقة، وما كان ذلك إلا لعلمهم بخطورة القول على الله تعالى بغير علم، وأن ذلك أعظم الذنوب على الإطلاق، كما نص عليه ابن القيم رحمه الله في أكثر من موضع، وقال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فختم هذه المحرمات الخمس التي اتفقت جميع الشرائع السماوية على تحريمها، وهي أعظم المحرمات، وأمهات الذنوب -الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله- بقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .