إلقاء اللوم على الحكام

أما المسؤول الثامن في نظرنا بعد العالم: فهو الحاكم.

وكما ورد في الحديث السابق، حديث ابن عباس: {إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء} وهو حديث ضعيف لا يصح، بل قال بعض أهل العلم: إنه ضعيف جداً، رواه أبو نعيم في الحلية، ولا يصح الحديث، لكن يحتج به الإنسان، لأنه يوافق هواه ورغبة في نفسه.

فالحديث برأنا من المسئولية، وجعلنا تبعاً، إذا صلح العالم والحاكم صلحنا، وإذا فسدا فسدنا والحمد لله رب العالمين، فالحديث لا يصح لا متناً ولا سنداً.

فنحن نقول: لا شك أن السلطان له دور كبير، ومن أهم أدوار السلاطين: اختيار المسئولين الأكفاء وتوليتهم الأعمال، الرجل المناسب في المكان المناسب وهذه أهمية كبيرة، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وما أضاعتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة} .

فأعظم دور للسلاطين والحكام، هو اختيار المسئولين الأكفاء، ووضعهم في المكان المناسب أولاً، ثم محاسبتهم كما كان يفعل عمر، كان يرسل الرسل للناس ويقول: [[إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم، وليقسموا فيكم فيئكم]] يقسموا بينكم الأموال ويعلمونكم الدين، ومن الملاحظ أن هناك تناسباً ظاهراً بين وضع الحكام والمسئولين وبين وضع الناس، يقول بعض أهل العلم وبعض المؤرخين: لما ولي أبو بكر رضي الله عنه، كان أبو بكر رجلاً متواضعاً خاشعاً ذليلاً لله تعالى، كان يلبس أبسط الثياب، ففعل الناس مثل فعله، وفد عليه الملوك من اليمن ومن أنحاء الدنيا، والأمراء -أمراء القبائل- وغيرها، وكانوا يلبسون التيجان والثياب الفاخرة، فلما رأوا أبا بكر رضي الله عنه خلعوا تيجانهم وثيابهم، حتى نقل أن " ذا الكلاع "، وهو ملك من ملوك حمير، لما رأى أبا بكر وتواضعه وزهده ولباسه؛ خلع ملابسه ولبس لباساً عادياً جداً، حتى إنه تواضع وتذلل وكان يوماً من الأيام يمشي في الشارع، " ذو الكلاع " وعلى ظهره جلد شاة، فلما رآه قومه قالوا: فضحتنا يا فلان، أنت سيدنا ورئيسنا بين المهاجرين والأنصار تحمل جلد شاة على ظهرك؟ فقال لهم: والله لقد رأيت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أنه يسعني أن أسلك غير مسلك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما دام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في السوق، ويحمل بضاعته بنفسه، ومتاعه بنفسه، فأنا مثله سواءً بسواء.

ومثل ذلك الأشعث بن قيس، وغيره من الكبار الذين قد تعودوا على الأبهة والفخامة والملابس الفاخرة وغيرها، والرياش والأموال والعبيد والخدم والحشم، لما وجدوا أبا بكر رضي الله عنه كذلك سلكوا نفس السيرة والمسلك، فهناك تناسب.

ولما جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه، كان رجلاً فيه سماحة وجود وكرم وسخاء، والله تعالى فتح على المسلمين الأرض والأموال، فكان يعطي الناس من الأموال، ويوسع عليهم ويقسم بينهم، حتى يعطيهم اللحم وهم في بيوتهم والأطعمة والملابس وغيرها.

وبالتالي تجد المجتمع على نفس النمط، فأصبح الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون توسعاً مباحاً، بل محموداً في بعض الجوانب في الدنيا، فبنوا القصور والدور والمساكن وغيرها، كما فعل الزبير رضي عنه فيالكوفة، وفي البصرة، وفي الشام، وفي مصر، وفي المدينة وغيرهم، كـ طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وهكذا، حتى أن كثيراً منهم من خيرة أصحاب النبي عليه السلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة فعلوا ذلك ولا حرج، بل هذا مسلك حسن من بعض الوجوه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {نعم المال الصالح للرجل الصالح} وكما قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال} وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} فهذا مسلك حسن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كلٍّ خير.

ولما تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاءه رجل، فقال: يا أبا الحسن، الناس اجتمعوا على أبي بكر، وتوحدت كلمتهم عليه، لكن لما وليت أنت اختلف الناس عليك وحصل ما حصل، قال له علي بن أبي طالب: أتدري لماذا؟ قال: لا.

فالرجل يريد أن يحمل المسئولية علي بن أبي طالب، لكن علي بن أبي طالب، كان فقيهاً في سنن الله تعالى، ولذلك قال علي بن أبي طالب لهذا الرجل: لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يحكم مثلي، أما أنا فصرت أحكم مثلك.

وبالتالي هناك تناسب بين الراعي والرعية من وجوه عديدة وهذا أمر مطرد.

ولذلك يقولون في أمراء بني أمية، لما تولى هشام بن عبد الملك أو غيره، هشام كان رجلاً بخيلاً ممسكاً للمال، وبالتالي الناس بخلوا لما تولى، وصار هناك شحٌ في الأموال وفي الإمكانيات وفي وظائف الجند وفي غيرها، حتى قيل: إنه لم يمر بالناس عهد ولا عصر أشد عليهم ولا أنكى من عهد هشام، لأنه أمسك الأموال وقلَّت في عصره، فأمسك الناس ما بأيديهم تناسباً مع حاله ووضعه.

ولما تولى حاكم آخر كـ عبد الملك وكان قبله، وكان يحب الشعر، كثر الشعر في عصره والشعراء، مثل جرير والفرزدق والأخطل، وكان الرجل -أيضاً- عنده إسراع في الدماء وفي القتل، ولذلك سخر له من الأعوان من يكونون على شاكلته في أكثر البلدان، ولعل من أشهرهم: الحجاج بن يوسف، وكذلك أخوه محمد بن يوسف في اليمن، وغيرهم من أمراء الجور الذين كانوا يبطشون بالناس ويسفكون الدماء.

فهناك تناسب، هذا صحيح، لكن هل التناسب.

بسبب أن الحاكم من الرعية أو بسبب تأثير الحاكم على الرعية؟ كلاهما موجود وكلاهما واقع، فالحاكم هو واحد من أفراد الناس يوماً من الأيام، مثله مثل أي واحد منهم، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى: لا شك أن له تأثيراً أكبر من أي إنسان، هذا لا أعتقد أنه موضع خلاف.

لكن ينبغي أن تدرك؛ أنه حتى حين نتصور أن هناك حاكماً في أي بلد، أو سلطاناً استبد بالناس وأفقد الناس قيمتهم وجعلهم أصفاراً، فإن هذا الأمر يرجع إليهم هم، بمنظار الشارع، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم -هكذا قاعدة يرسيها الله تبارك وتعالى-: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:12] نولي بعض الظالمين بعضاً، أي نجعلهم أولياء، فحين كان الناس من أمثال قارون وهامان وأمثالهم، سلط الله عليهم فرعون ويوم كان الناس مثل عمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد؛ قيض الله لهم مثل أبي بكر.

ولما فسد أمر الناس شد أمر ولاتهم، فالأمر فيه تناسب.

ولذلك يقول بعضهم: إن الله تعالى قيض لـ عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة من أمثال رجاء بن حيوة وغيرة من الأتقياء العباد الزهاد العلماء الفقهاء، وكذلك قيض لـ عبد الملك بن مروان وأمثاله، الحجاج بن يوسف وأمثاله من الفساق الضلال الظلَّام.

وهكذا تأتي القضية نولي بعض الظالمين بعضاً، يقول الله تعالى: عن {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ما كان ليستطيع أن يقف خطيباً.

ويقول للناس {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ما كان ليفعل ذلك؛ لولا أنه عرف أن أمامه أناساً لا قيمة لهم، ولا يمكن أن يردوا عليه، ولا يقاوموا ظلمه أو بطشه أو بأسه أو عناده، بل هم يؤمَّنون على ما يقول، خطأً كان أم صواباً حقاً كان أم باطلاً، ولذلك أصبح يقول ما يقول، دون أن يتوقع من أحد أن ينكر عليه أو يرد عليه ما قال.

فهناك تناسب واضح، وما يقع من هؤلاء؛ فإنما هو بسبب أن الناس فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم بمسئوليتهم، فتسلط عليهم هؤلاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015