صورة أخرى من صور الغيبوبة التي نعيشها نحن الآن كأفراد، ونعيشها أيضاً كأمة: قضية عدم اعتبار المسلمين، وعدم النظر إلى إرادتهم.
كم من موقف أو عقد أو تصرف يفعله إنسان واحد، بالنيابة عن الأمة كلها، أو بالنيابة عن قطاع كبير من الأمة.
جزء من الأمة لم يأخذ فيه رأياً، مع أنه أمر مصيري، يتحدد بناءً عليه أشياء كثيرة.
فعلى سبيل المثال: قضية الصلح مع اليهود، هذه القضية ليست قضية فرد بعينه، ليست قضية محمد أو صالح أو أحمد أو فلان، هذه قضية الأمة كلها، فمن هو الذي خول شخصاً من الأشخاص أن يتصرف بالنيابة عن المسلمين كلهم، ليبرم صلحاً، أو لا يبرم صلح، أو يتقدم أو يتأخر، أو يحارب أو يسالم أو ما إلى ذلك؟ هنا غيبة المسلمين أو غيبوبتهم جعلت إرادتهم معدومة، لا أحد ينظر إلى إرادتهم، لا أحد يأخذ رأيهم أو يستشيرهم، لأنهم فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم باعتبارهم مسلمين مكلفين محاسبين، ومسئولين حتى في الدنيا مسئولية تاريخية، فقدوا ذلك، وبالتالي الناس فقدوا شعورهم بهم -أيضاً- وصاروا يتصرفون دون الرجوع إليهم، فصار الأمر كما قال الأول: ويقضي الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود صورة ثالثة: تسمعون يوماً من الأيام، أن في روسيا قتل ستة من اليهود، قامت الدنيا وما قعدت، وأجهزة الإعلام تشتغل، ليس في إسرائيل فقط، بل في دول العالم الغربي كله، ليل نهار، لماذا حقوق الإنسان مهدورة؟ لماذا يقتل هؤلاء؟ بأي جرم؟ ما هي المحاكمة التي تعرضوا لها؟ أين مواثيق الأمم المتحدة؟ وهكذا نسمع جدلاً ستة من اليهود من إخوان القردة والخنازير، لا وزن لهم ولا قيمة ولا اعتبار قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] لكنهم يشعرون بقيمتهم، وبالتالي قومهم يشعرون بقيمتهم، فيحركون العالم كله أمام هؤلاء الذين قتلوا.
لكن بالنسبة للمسلمين ليست المسألة ستة أو ستين أو ستمائة! المسألة بالألوف، أحياناً شعوب تباد بأكملها، ولا أحد يتحرك، دماؤنا رخيصة عند قومنا وعند الأعداء، أما الأعداء فلا يلامون، لكن المشكلة أن دماءنا رخيصة عند أقوامنا، وتأتي قضية إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض أو الأحمر أو الأسود، على اختلاف في الروايات، المهم أن المسلمين دماؤهم رخيصة تسفك.
ولعلكم يومياً تسمعون وجبات من دماء المسلمين، كما نجد الآن من آخر القضايا: قضية كشمير، عندما تقرأ الأخبار -والله الذي لا إله غيره- أننا عندما نقرأ الأخبار؛ نشك في صدقها، مع أنه -أحياناً- الإنسان مقتنع أنها صحيحة، لكن من شدة غرابة الخبر وسكوت أجهزة الإعلام عنه، يقول الإنسان: هل معقول يقتل هؤلاء الآلاف المؤلفة؟ هل معقول تباد قرى بأكملها، -أحياناً- بالقنابل وأحياناً بالأسلحة الكيماوية، ولا أحد يتحرك ولا يلتفت؟ نعم معقول؛ لأن هؤلاء المسلمين أو كثيراً منهم، فقدوا إحساسهم بقيمتهم، ففقد الآخرون الإحساس بهم، وفقدوا الترابط الذي هو نتيجة للشعور بأننا أصحاب هم واحد، كما كان يقول الشاعر أحمد شوقي: نصحت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق نحن نقول: كلنا في الهم إسلام ومسلمون، فلو كان كل إنسان يحس بمسئوليته عن نفسه حقيقة؛ لأحس بمسؤليته عن إخوانه المسلمين في كل مكان، مصداقاً لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} وقال أيضاً: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} .