رمضان فرصة لتجديد الحياة

ثالثاً: رمضان فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، فرمضان شهر له شخصيته الخاصة من بين شهور السنة، حتى الأطفال الصغار يعرفون لرمضان طعماً خاصاً، وحتى الفساق يعرفون كيف يكون رمضان.

بل حتى الشياطين يأخذون لرمضان هماً ثقيلاً لأنهم يسلسلون فيه ويصفدون، ولذلك تجد أن البلاد التي اندرست أو كادت أن تندرس فيها آثار الإسلام ومعالمه، وعبثت فيها العلمانية، تجد أن تلك البلاد إذا جاء رمضان تغيرت أشكالها -سبحان الله- وتغير الناس تغيراً كبيراً، فلا يزال رمضان يحتفظ بشخصيته المستقلة الخاصة المميزة من بين جميع الشهور.

ولذلك فإن من المناسب جداً أن تحشد كل المؤثرات، لتوجيه الناس إلى شرف هذا الشهر فضل العبادة فيه، والتوبة والإقبال على الله عز وجل، ووجوب الخروج من المظالم، وتربية الناس على التقوى والإيمان، وعلى كل معاني الدين التي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريرها.

ويتم ذلك من خلال دروس المساجد -مثلاً- الموجهة للرجال والنساء على حد سواء، من خلال خطب الجمعة والمحاضرات، ومن خلال النشاطات والبرامج التي تقيمها مكاتب الدعوة والإفتاء وغيرها، بل من خلال الكتب والأشرطة التي ينبغي أن تغتنم فرصة اجتماع الناس في المساجد رجالاً ونساء لتوزيعها.

وأخص الحديث عن النساء، لأن النساء تجتمع في المساجد في رمضان ما لا تجتمع في غيره، فتوجيه الحديث لهن ونصحهن وإرشادهن، وبيان حدود ما أنزل الله للنساء، وتوزيع الكتب والأشرطة وغيرها، من أهم الأنشطة والأعمال التي ينبغي أن تلفت إليها الأنظار.

وحين نقول: إنه ينبغي حشد الجهود لتوجيه الناس إلى هذا الشهر الكريم، وما فيه من العبادة والقدسية، لا يعني هذا أبداً الغفلة عن أن الإسلام دين الشمول، وأننا نرفض بكل مناسبة، المفهوم الكنسي للإسلام، الذي يحاول البعض أن يلصقوه بهذا الدين.

المفهوم الذي يعتبر العمل في الدنيا -مثلاً- خطيئة، فتجد الواحد في رمضان يكف عن العمل، بل العمل جزء مما كلف الإنسان به في هذه الدنيا، ولو أن إنساناً ترك العمل حتى جاع أو جاع أولاده، لكان آثماً بذلك عند الله تعالى يوم القيامة.

أو المفهوم الذي يفصل بين الدين وبين الحياة، فيعتبر أن الدين لله -كما قال أحدهم، وقد نشر هذا المقال في مجلة اليمامة أو غيرها، وكان فيه كلمة تشير إلى أن (الدين لله والوطن للجميع) - وهذا مفهوم غريب، فإن الله تعالى له كل شيء، له الآخرة والأولى، وله السماوات والأرض، وله الحكم وإليه ترجعون، وبيده مقاليد كل شيء، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

فالدين لله والوطن لله، واجتماع الناس يجب أن يكون على أساس الأخوة الدينية، لا على أساس الأخوة الوطنية.

فالفصل بين الدين والحياة أمر مرفوض، والدين ما جاء إلا ليحكم حياة الناس من الألف إلى الياء -كما سبق أن بينا- فالدين يتحكم في المولود يوم يولد ماذا يسمى، وتحنيك المولود، وما يتعلق بالعقيقة إلى غير ذلك، ويتحكم في الميت حين يدفن في المقبرة كيف يدفن؟ وما هي الأشياء المشروعة عند دفنه؟ وعند الصلاة عليه وغسله، وغير ذلك.

وما بين ذلك من أحوال الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والدولة، كلها لا يمكن أن يخرج منها شيء عن حكم الله تعالى ورسوله.

ليس في الدنيا شيء يقع إلا ولله ولرسوله فيه حكم، علمه من علمه وجهله من جهله.

ولذلك يكون من الأمور المستغربة، ما تسامع به الكثير من الناس في خطبة أذيعت في الإذاعة مرة أو أكثر، وتحدث ذلك الخطيب فيها عن الخطب، وانتقد تناول الموضوعات السياسية في الخطبة -مثلاً- وقال: إن الخطب تحولت إلى منتديات سياسية، وإن الخطيب يخطب حتى يحتشد الناس حوله، أو حتى يذكر، أو حتى تباع أشرطته في محلات التسجيلات.

ولكن فاته أن يقول: أو يخطب لتذاع خطبته في الإذاعة أو يخطب ليتزلف بذلك إلى سلطان أو غيره.

كما أنه قال إن الخطبة لم تشرع لذلك، ولكنها شرعت للتربية الإيمانية!! وأقول: إذا كانت الخطبة شرعت للتربية الإيمانية، فهل يمكن أن نعتبر هجومه على الخطباء الذين يتحرقون لآلام المسلمين، من التربية الإيمانية؟! وإذا لم تكن الخطبة شرعت لمعالجة أحوال المسلمين وأوضاعهم، ودراسة أمورهم، فهل شرعت للنيل من الدعاة وطلبة العلم والخطباء على رءوس المنابر؟! وإذا كان الناس يختارون الخطيب الذي يستمعون إليه، ويأتونه من مكان بعيد؛ لأنهم يجدون الكلمة الصادقة، والتوجيه السليم، والألم والحرقة، والكلام الذي يربطهم بواقعهم، ويشعرهم بالدور الذي يمكن أن يقوموا به، فهل على الخطباء من لوم أو تثريب إذا انفض الناس عن غيرهم وجاءوا إليهم؟! هل قال لهم الخطيب: تعالوا إليّ واتركوا فلاناً وفلاناً؟! كلا، والخطيب لا يستطيع أن يضع على أبواب المساجد شرطةً يمنعون الناس من الدخول، بل وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

ونحن نعتبر من مظاهر يقظة الأمة وصحوتها؛ أن تقبل على الخطباء الذين تجد عندهم الكلمة الهادفة، وليس صحيحاً أن المسألة مجرد إثارة، كلا ثم كلا، بل القضية قضية أن هناك خطباء يلامسون الجرح الذي يعانيه المسلمون.

وما معنى -أيها الإخوة- أن يكون المسلمون يعيشون هموماً كبيرة في وقت، ثم يتحدث الخطيب في ميدان آخر؟ أرأيت خطيباً -وأضرب مثلاً يناسب حال ذلك الخطيب- أرأيت يوم حصل الاجتياح العراقي للكويت، واهتم الناس بهذا الأمر، وأقض مضاجعهم وأزعجهم وأقلقهم، هل كان من المناسب أن يأتي الخطيب إلى جمهور من الناس، يريد أن يسمع حكم الله ورسوله فيما جرى، ويريد أن يعرف ماذا يجب علينا أن نعمل، ويريد أن يسمع كلمة عزاء لمصاب، أو كلمة دعاء على ظالم، ثم يأتي الخطيب ويتجاهل هذا الواقع كله ويذهب ليتحدث عن قضية تاريخية حصلت في القرن الأول أو القرن الثاني؟! أو يتحدث عن قضية بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؟! أو يتحدث عن أحكام تتعلق بالطهارة يمكن أن يتحدث عنها في أي وقت آخر؟! لا شك أن من أهم أسباب نجاح الخطيب، بل من الأهداف المشروعة للخطبة، أن تعالج الخطبة ما يمس واقع الناس، وما يحتاجون إليه.

ولو تساءلنا: كيف خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته؟ ألم تكن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم -وكثير منها محفوظ كله أو جله- ألم تكن رفضاً لشرك العرب في الجاهلية؟ ألم تكن دعوةً إلى التوحيد؟ بلى، ولما آمن الناس كانت الخطب تربية لهم على الإيمان، وبياناً للأحكام الشرعية، ولما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فخطب فماذا قال؟ الآن الناس يعيشون حدثاً كبيراً، هو حدث وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم مشدوهة، ونفوسهم مشحونة، وعيونهم دامعة، وأيديهم ضارعة، فماذا قال أبو بكر؟ لم يأتِ ليخطب عن قضية بعيدة، بل خطب في الموضوع نفسه، وقال كلمته المشهورة التي نفع الله بها نفعاً عظيماً فقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]] .

ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] إذاً الخطبة ينبغي أن تكون مرتبطة بالواقع، حتى تربية الناس التربية الإيمانية، ينبغي أن تنبثق من الواقع ومن الأحداث.

وقد كان الله تعالى، يربي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، من خلال الأحدث، فإذا وقع حدث ما، نزل القرآن بالكلام عن هذا الحدث وبيان أسبابه.

حصلت معركة أحد، فانهزم المسلمون، وبدءوا يتساءلون لماذا هزمنا، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا الحق؟ فنزل القرآن، يقول الله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .

والآية التي بعدها {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] إلى غير ذلك، والقرآن كثير منه له أسباب نزول من هذا القبيل.

إذاً التربية الإيمانية ينبغي أن تكون مرتبطة بواقع الناس.

ثم إن شئون المسلمين وهمومهم وقضاياهم واحدة، ولم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أحد أن يقول كلمة الحق، بل أمر بها وأوجبها، ولو لم تقل الأمة كلمة الحق فقد تُودّع منها، ويحل عليها عقاب الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] .

إن الخطيب قد يقول كلمة حق يرفعه الله تعالى بها في الدنيا والآخرة، ويدخله بها الجنة، ويكون في هذه الدنيا محل حفاوة الناس وحبهم وتكريمهم، وقد يقول الخطيب كلمة متجنية، يحترق بها في الدنيا ويسقط من أعين الناس، أما الحساب في الدار الآخرة فلسنا ممن يتكلم عنه فإن الله تعالى هو ولي ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015