الموضوعية في الحوار والمناقشات

الأدب الثامن: الموضوعية، والموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه، فمن الموضوعية مثلاً عدم إدخال الأحاديث بعضها في بعض، فبعض الناس إذا أحرجته في موضوع هرب منه إلى موضوع آخر، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع، وكل ما أحرج في نقطة انسحب منها إلى غيرها، ونقل الحديث نقلة بعيدة أو قريبة، ولعل هذا أعظم أدواء المناظرة التي تجعل الإنسان يخرج منها ربما بعد ساعات بلا طائل لأنه يتنقل مثل الطائر من غصن إلى غصن، فالموضوعية تقتضي ألا تخرج من نقطة إلا إذا انتهيت منها، ثم تنتقل إلى غيرها.

وكذلك من الموضوعية عدم إدخال موضوع في آخر، فقد تتكلم مع إنسان في الحجاب -حجاب المرأة المسلمة- وضرورة تحجبها والتزامها بالستر، وبعدها عن السفور، وبعدها عن مكان اختلاط الرجال بالنساء، أو أماكن اللهو، أو أماكن الفساد، أو غير ذلك، فتجد أنه يناقشك في هذا الموضوع، وبعد قليل يقول لك: يا أخي! الناس وصلت القمر وأنت ما زلت تجادل في هذا الموضوع!! لكن ما علاقة وصول الناس بالقمر أو عدم وصولهم بقضية مطالبتنا بحجاب المرأة المسلمة مثلاً، أليس هذا إدخال لموضوع في قضية لا يتعلق بها؟ أو تكلم إنساناً في قضية الغناء -الغناء الفاحش البذيء- الذي أصبح يصك الأسماع، ويهيج الغرائز، ويدعو إلى الرذيلة، فتتكلم مع إنسان في هذه القضية فيقول لك: يا أخي! المسلمون يقتلون في مشارق الأرض ومغاربها، وتسفك دماؤهم وتنتهك أعراضهم، وأنت ما زلت تتكلم في هذه الجزئيات! لكن نحن اتفقنا أن موضوع الغناء هو الذي سيناقش، فما دخل قضية قتل المسلمين؟ وهل إذا تركنا الحديث عن الغناء، أو الحديث عن حجاب المرأة المسلمة حلَّت مشاكل المسلمين ورفع الظلم عن المظلومين؟! وكذلك من الموضوعية: عدم النيل من المتحدث، أو اتهامه في نيته، أو الكلام على شخصه، وبعض الناس يقول: مَنْ هذا الإنسان؟ وما هدفه؟ وما تاريخه؟ ومن وراءه؟ وما درجته من العلم؟ وما قدره؟ يا أخي! ما علاقتك بهذا الشخص المتكلم وليكن [س] نكرة من الناس، المهم أن أمامك دعوى وكلاماً قيل، ومطلوب منك مناقشته بالحجة والبرهان، ودع المتكلم جانباً وانظر في نوعية الكلام الذي قيل، وما قدره من الخطأ أو من الصواب: خذ من كلامي ولا تنظر إلى عملي ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري وكذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله سبحانه وتعالى قد ذم الذين يكثرون من اليمين، فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:10-13] دَعِيٌّ ملصق في أهل العلم وليس منهم، فهوملصق في قوم وهو ليس منهم، ومع ذلك يكثر من الأيمان الكاذبة، أو قد لا تكون كاذبة؛ لكن اليمين ليس بحجة، وكونك تحلف بالله العظيم الذي لا إله إلا هو الغالب الطالب أن هذا هو الحق؛ هذا لا يقدم ولا يؤخر، فقد تكون أنت مقتنع أن هذا هو الحق؛ لكن قناعتك هنا ليس لأنك درسته وعرفت حججه وعرفت أدلته؛ ولكن لأنك تلقيته عن شيخ تعظمه فوقر في قلبك، أو لأنك درسته منذ صغرك فاستقر قراره في نفسك، وليس لأن لديك دليلاً على أنه هو الحق، فقد تكون أنت مقتنعاً قناعة مطلقة بأنه هو الحق فتحلف على ذلك، وأنا أعرف بأنك إذا حلفت تعتقد أنه هو الحق -إذا كان حلفك باراً- ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق؛ فقد تكون تراه الحق وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه.

وكذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث؛ فأحياناً المناظر يكذب! وقد سمعت مرة اثنين يتناظران في قضية، وأحدهما شيعي، فالشيعي قام وقال: روى الإمام أحمد في مسنده أن: وذكر حديثاً موضوعاً مختلفاً، هذا الحديث لما ترجع إلى الجزء والصفحة لا تجد الحديث- لكن لأنه يعرف أن الخصم ليس عنده وقت حتى يرجع إلى المسند ويتأكد من صحة الحديث، ومن البعيد جداً أن يكون قد أحاط بمسند الإمام أحمد حتى يعرف ما فيه مما ليس فيه، فيستغل الحديث، ويضر الخصم بحديث يختلقه، وينسبه إلى كتاب من هذه الكتب وربما ينطلي عليه، فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وإذا لم يكتشف الخصم حال المناقشة فربما يكتشف فيما بعد، ويبين أنك كنت كاذباً فيما ادعيت.

وأخو الكذب -هذا اسمه الكذب لكن هناك شيء اسمه أخو الكذب- هو بتر النصوص كأن تنقل نصاً طويلاً، فتنقل منه الكلام الذي يصلح لك ويدل على ما تريد وتترك الباقي! فهذا ليس من الأمانة، لكن انقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته، فإما أن يقروك أو يقولوا: الكلام لا يفهم، وليس من الضروري أن يكون الكلام يفهم حرفياً، فإن كلامي وكلام فلان وعلان ليس كلام رب العالمين حتى تقول: هذا كلام حروفه وألفاظه كلها مقصودة، وله وله بل هذا كلام بشر يخطئ ويصيب، فهذا أولاً.

الأمر الثاني: أن هذا الكلام مع أنه كلام بشر قد يقوله الإنسان ولا يدرك كل ما وراءه، والكلام يفهم من حال المتكلم ومن سياقه ومن نصوصه الأخرى ومن سيرته، كما ذكر الإمام ابن القيم في مواضع من كتبه، من إن كلام الناس يفهم على ضوء الشخص المتكلم، وظروف المتكلم، وما يعلم عن المتكلم وأحواله، فإذا صدر كلام من شخص عرفنا أنه يحتمل أكثر من معنى، وأن الذي يليق بفلان من المعاني كيت وكيت وكيت وإن كان الكلام يحتمل غيره، لأن كلام الناس يحتمل وجوها.

فمن الموضوعية ألا تبتر النص، وتستخرج فهماً أنت فهمته من الكلام وتقدمه للناس.

كما أن من الموضوعية أنك إذا لم تعرف شيئاً فإنك تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله -كما يقولون- ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه لا أدري، حتى يلجئوا إليها إذا عجزوا.

ومن الموضوعية: التوثيق العلمي، فإذا استدللت بكلام فلا تستدل بشائعات، أو ظنون، أو أوهام ربما استقلّت في عقلك أو عقل فلان أو علان من الناس!! بل استدل بالإحصائيات، وبالنصوص، وبالأدلة الواضحة -بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- وإذا وجدت أقوالاً للعلماء تنقلها بنصوصها أو ما يشبه النصوص فالمهم أنك تستدل بحقائق علمية وتوثق ما تقول، أما مجرد الظنون والأوهام والشائعات فإنها لا تصلح أدلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015