الأدب التاسع: عدم الإلزام بما لا يلزم، أو المؤاخذة باللازم، فمثلاً؛ إنسان خالف أحد العلماء في قوله، أي أنه قال قولاً خالف فيه عالماً بعينه، فيقال لهذا الإنسان: يا أخي! أنت خالفت فلاناً العالم، وهذا يلزم منه أنك ترى أنك أعلم منه!! لا يا أخي! لا يلزم أني أعلم منه، وقد أكون خالفته في هذه المسألة باجتهادي وأنا أعرف أنه أعلم مني في كل المسائل؛ لكن هذه المسألة لا يسعني أن أقلده فيها مثلاً، أو يقال له: أنت تخطئ فلاناً، أو تضلله!! فأنا لا أضلله، وإنما قلت بهذا القول باجتهادي، وقد يكون اجتهادي خطأً، لكنه في نظري صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري -كما قال الشافعي - خطأ يحتمل الصواب.
وكذلك قد يأتي إنسان فيقول: فلان قال قولاً ما سبق إليه، وهذا يلزم منه أنه يحكم بأن الحق قد غاب عن الأمة طيلة القرون الماضية، وهذا في الحقيقة لا يلزم.
أولاً: كون هذا القول لم يسبق إليه فقد أقول لك: لا، بل قد سبق إليه، وقاله فلان وفلان من الناس، وعلى فرض أنه ما سبق إليه، ولا قال به أحد قبله، فقد يكون قيل هذا القول ولكنه لم ينقل، وحتى لو فرض أنه لم يسبق إليه فهو لا يرى أن هذا من الحق الذي يجب أن تعلمه الأمة في كل زمان ومكان، بل يرى أن هذا من الأشياء الاجتهادية التي قد يقول بها إنسان، وربما تحتاجه أمة أو لا تحتاجه، فليس فرضاً أن تعلمه الأمة في كل حين، وفي كل زمن، وفي كل مكان، أو أن يقول به من قال به، وقد يرى أن المسألة ما نقل فيها قول أصلاً.
والإلزام من المشكلات، وكونك تلزم إنساناً بمقتضى كلامه فهذا خطأ، فاللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث؛ دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام.
يعني يلزم على هذا النص كذا وكذا، وهذا في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا تلزم فيه بشيء، ولا تقول: يلزم من كلامه كذا، ويلزم كذا، فلعله ما خطر بباله هذا اللازم، ولا فكر به في يوم من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم فقد لا يقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟ ومن بطلان اللوازم أن أبا نواس الشاعر الماجن المشهور حاول أن يستخدم هذا الإلزام بطريقة معينة، فكان أهل العراق الأحناف يقولون بجواز حل النبيذ، وأهل الحجاز يقولون بتحريمه وأنه مثل الخمر، فهذا الشاعر الماجن الخبيث يقول: أباح العراقي النبيذ وشربه وقال الحرامان المدامة والسكرُ وقال الحجازي الشرابان واحد فحل لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لا فارق الوازر الوزر ولا شك أن من قال بحل الخمر فهو كافر، لأن تحريمها ثابت بنص القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] لكني أردت أن أبين لك فساد الألزامات التي يختلقها بعض، ويحاول أن يحاصر بها الآخرين.