أما فيما يتعلق بصناعة الحياة؛ فقد وقفت في هذا الأسبوع على قصاصة في إحدى صحفنا المحلية، وهي جريدة الرياض، وقد تستغربون ما علاقة هذا الموضوع بصناعة الحياة، وسوف أقرأ عليكم الخبر أولاً، ثم لابد أن سوف يظهر لكم ما علاقته بصناعة الحياة.
والخبر قد نشرته جريدة الرياض وليس بين يدي رقم العدد، وإن كنت أقرأ من مصورة الجريدة، يقول العنوان: زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت، فبعد عبد الله جورج وشناشيل بوش الأكثر رواجاً، وتاتشر نجمة سوق الصاغة، يقول الخبر: لا يزال القادة الغربيون يساوون وزنهم ذهباً في الكويت بعد سبعة أشهر من انتصار قوات التحالف الدولي لتحريرها من الاحتلال العراقي.
ففي سوق الصاغة بوسط العاصمة أطلق هؤلاء أسماء بوش وبيكر وتاتشر على نماذجهم المفضلة من العقود والأساور دليلاً على الشعبية في بلد ليس فيه استطلاعات رأي، وفي حين غاب الرئيس ميتران عن الواجهات فإن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تاتشر هي النجمة، ويسعى التجار بذلك إلى رد الجميل للتي يعتبرونها أكثر القادة الغربيين صلابة، ويشرح أحدهم: فيقول: لقد وقفت إلى جانبنا فور الغزو العراقي.
ورسم تاتشر مزين بخطوط منحنية تتقاطع فوق خلفية من الذهب المفرغ، ويزين رسم الرئيس الأمريكي جورج بوش طوق زواج ضخم من الذهب الخالص، مثقل بالسنشيل يتصدر سائر الواجهات، ويوضح أحد الصاغة أن ثمن العقد ألفان وخمسمائة دينار، أي نحو ثمانية آلاف وخمسمائة دولار.
بينما تساوي أحزمة ثقيلة مخصصة لمهور العرائس نحو ثلاثة أضعاف هذا السعر، والبدو -خصوصاً- يطلبون نموذج بوش لأ المفضل لديهم، وعلى باب المحل ملصق كبير للرئيس الأمريكي مبتسماً، أما جون ميجر خليفة المرأة الحديدية، وكذلك المتحدثة باسم البيت الأبيض، ووزير الخارجية الأمريكي لقد كرموا بجواهر أكثر تواضعاً إلى جانب نماذج أسكود -صواريخ أطلقها العراقيون خلال الحرب- وعاصفة الصحراء.
وقال صائغ: إن الموضة بدأت بعد تحرير البلاد، والنماذج ستستمر على الأرجح عاماً أو عامين، وداخل المحل تتفحص نسبة من المحجبات المجوهرات، وهن يرقبن الرسوم بعين خبيرة ويجربنها برشاقة، ويباع الذهب في الكويت حالياً، إلى أن يقول: ولا يقتصر هذا التمجيد للقادة الغربيين -وعلى الأخص الرئيس الأمريكي- على سوق الذهب وحده؛ بل هي ظاهرة واسعة الانتشار عمت المجتمع منذ اللحظات الأولى لتحرير الكويت!! بل إن أحد المواطنين الكويتيين لم يتردد في تسمية المولود بعبد الله جورج بوش! وقالت أم الطفل عبد الله جورج بوش وذكر اسم أمه تعليقاً على هذا الاسم لمولودها: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي كبادرة عرفان لتحرير بلادنا.
ولقد ضحكتم ولا بد أنكم بكيتم في نفس الوقت: وشر البلية ما يضحك، وكم يؤسفنا ويحزننا أن نقول: إن أعداءنا الكبار عرفوا كيف يصنعون الحياة! عرفوا كيف يصنعونها لأديانهم، ولمذاهبهم، ولمعتقداتهم، ولمصالح بلادهم، فأصبح المسلمون مدينين في أعماق قلوبهم لهؤلاء الكبار؛ وما رسم صورهم أو إطلاق أسمائهم على محلات أو شوارع أو أشخاص؛ إلا تعبير عن هزيمة قلبية داخلية، بحيث أصبحت النماذج المفضلة في نفوس المسلمين، أو طائفة من المسلمين، هي تلك الرموز الوثنية التي لم تكن عملت ما عملت من أجل سواد عيوننا؛ إنما كانت تعتبر هذا جزءاً من صناعة الحياة.
لقد صنعوا الحياة حيناً باسم الولايات المتحدة الأمريكية وصنعوها حيناً آخر باسم هيئة الأمم المتحدة، وصنعوها حيناً ثالثاً باسم النظام الدولي الجديد، وهو الستار الجديد المعلن الذي يخفي مطامع الغرب في بلاد الدنيا وخاصة في بلاد المسلمين، وقد صنعوا الحياة حيناً باسم الدفاع عن مصالح الشعوب المستضعفة، وصنعوها أحياناً كثيرة باسم الديمقراطية التي تخفي وراءها دكتاتورية تتدجج بالحديد والنار، لإجبار العالم كله على الخضوع والتسليم والانقياد لمصالح الغرب، وصنعوا الحياة مرة سادسة؛ باسم حماية مصالح اليهود في العالم، وفي الشرق العربي والإسلامي بصفة خاصة.
فهذا نموذج من صناعة الحياة، وصحيح أن الصانع كافر، وصحيح أنه متعصب لدينه وملته، وهو يتردد على الكنيسة كلما ألمت به أزمة؛ ولكنه يصنع الحياة، واستطاع أن يغرر بالكثيرين باسم الديمقراطية وباسم النظام الدولي الجديد، وباسم مصالح الشعوب، وباسم تحرير الإنسانية، وباسم نزع السلاح؛ وبكافة الأسماء، فهم قد صنعوا نموذجاً لحياتهم، ومع ذلك -ومع أن هذا يؤذي الكثير من النفوس- إلا أننا نملك نصاً نبوياً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} .
فإذا كان هؤلاء الغربيون الذين ذكر الخبر -في جريدة الرياض السعودية- أسماءهم، قد أصبح لهم من الثقل ما لهم، وأصبحت الصحف تزين بذكر أخبارهم أو صورهم، وأصبح تمجيدهم كما عبرت الجريدة هماً للكثيرين، فإننا نعلم أن هذا نهاية المجد الذي يطلبون ويؤملون، وأنه حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه، والذي أسقط الشيوعية بالأمس سيسقط الرأسمالية اليوم أو غداً أو بعد غد.
فأين المسلمون! الذين يمكن أن يقوموا بعمارة الدنيا وخلافتها، بديلاً عن الشرق أو الغرب؟