الاشتغال بالوسائل

أولاً الاشتغال بالوسائل -أحياناً- على حساب الغايات، أو الغفلة عن الغايات، اشتغالاً بالوسائل، خذ على سبيل المثال: 1- في علم مصطلح الحديث: في المجال العلمي: تجد أن طالب علم الحديث، يهتم بالمصطلح وقراءة المصطلح، ودراسته وحفظ المتون فيه، ويتكلم عن دقائقه، ويتكلم عن الرجال وحفظ الرجال والكلام فيهم، هذا ثقة وهذا ضعيف، وربما يحفظ ذلك ويعتني به أشد العناية، ويسرف في ذلك؛ حتى أنك لو جئت لهذا الإنسان تسأله عن حديث، أصحيح أم ضعيف؟ قال: والله ما أدري، أراجع لك، أو أسأل أهل العلم، مع أنه قضى ليله ونهاره في معرفة أمور المصطلح، وهي أمور فيها قضايا لا بد من معرفتها بكل تأكيد، وهي ضرورية وأساسية لمن يدرس علم الحديث، لكن هذه قضايا ثانوية.

فمثلاً: مسألة رواية الآباء عن الأبناء، أو رواية الأصاغر عن الأكابر، وقضايا المسلسلات، أو بعض تفاصيل علم الإسناد، كلها أمور ليست من القضايا التي لا بد منها، هي قضايا أقرب أحياناً إلى أن الاشتغال بها لا يكون مفيداً لطالب العلم، أو تكون فائدتها قليلة، ويكون من اشتغل بها عن غيرها مغبوناً.

2- مسألة أخرى: الاشتغال بأصول الفقه عن الفقه: تجد إنساناً مشغولاً بعلم أصول الفقه، وبالمقدمات المنطقية، والأحكام الوضعية، والأحكام التكليفية، وقضايا الكلام واللغة، وما شابه ذلك، وعنده فيها جودة وبراعة، ومعرفة بالمخطوط والمطبوع، وهذا جيد ولا بأس به؛ لكن تجد كثيراً من هؤلاء لو سألته -مثلاً- عن مسألة فقهية، ما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في مسألة كذا أو كذا، هز رأسه، وقال: الله أعلم، اسأل أهل العلم، اسأل المفتين، فما قيمة عنايتك بأصول الفقه باعتباره وسيلة إلى تحصيل الفقه واستخراج الأحكام من الأدلة وأنت لم تستخدم هذه الأصول؟! 3- مثال آخر: قضية التجويد: كثير من الشباب ومن الطلاب ومن المحبين، يهتمون بالتجويد وإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية، وربما أحياناً يتقعر في ذلك؛ حتى أني سمعت بعضهم يقول: يا أخي! إن مخرج الضاد مخرج دقيق عسير وكذا وكذا، حتى إنه لا يكاد يتقنه إلا أفراد من الناس، وبعد ذلك يبدءون يذكرون لك أنه على مدار التاريخ، كان -مثلاً- عمر بن الخطاب يخرج الضاد من مخرجها الطبيعي، أو فلان أو فلان، يذكر لك ثلاثة أو أربعة، سبحان الله!! حرف من حروف الهجاء، وموجود في سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في الصلاة في كل ركعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وتأتي تقول: لا يتقنه إلا عمر بن الخطاب، أو ثلاثة أو أربعة من الناس كيف يكون هذا؟!! دين الله يسر ليس فيه تكلف، ولا تنطع، ولا فيه داعي للتشقيق والتعميق والمبالغة، وتعسير الأمور بما يحول بين الناس وبين الإقبال على قراءة القرآن الكريم.

أحياناً تجد المبالغة في بعض صفات الحروف حتى تخرج عن حدها المعتاد، وتصل إلى درجة قد تكون على حساب فهم معاني القرآن، وعلى حساب التفسير، أو العمل بالقرآن، أو الدعوة إلى القرآن، أو على حساب الصبر على ما يلقاه الإنسان في سبيل القرآن؛ حتى أنك تجد -أحياناً- بعض الأخوات من النساء، وهي تهتم بالتجويد حسناً أنتِ لن تكوني إماماً في المسجد، فالمساجد والحمد لله ملأى، والحرم مكتفٍ، فلماذا أنت تقرئين هذه الأشياء، وتبالغين في مخارج الحروف في أمور لا تحتاجين إليها؟! لن تقرئي أمام الناس، لن تسجلي قراءتك في شريط، لا بأس أن تقرئي ما يجود قراءتك، ويضبط إخراج الحرف من مخرجه، بحيث لا يتحول إلى حرف آخر، تتحول الصاد إلى سين مثلاً أو العكس، أو يكون فيه تغيير لكلام الله عز وجل.

هذا كله صحيح، والقدر المعقول من ذلك مطلوب، وقد تستطيع أن تأخذه من خلال كتاب في عشرين ورقة؛ لكن المبالغة والتطويل والتهويل هذا تعقيد في الواقع.

ما بالك في المسلم الجديد الذي أسلم أمس! ليس عنده وقت لكي يقرأ التجويد، ثم القرآن، ثم الأصول، ثم الفروع، ثم المصطلح، إلى غير ذلك، بل حتى إغراق الشباب في مثل هذه المسائل هو على حساب مسائل أهم منها في الأعم الأغلب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015