إذاً: هناك تهويل في طرح بعض الأمور ومبالغة، وهناك إسراف في تضخيم بعض القضايا، حتى أنني أذكر أن هناك بعض أهل العلم إذا أراد أن يحذر من قضية -وهذه القضية ليست محرمة- لا يستطيع أن يقول إنها حرام، ولذلك قد يلجأ إلى حشد السلبيات المترتبة عليها، أو حشد المحاذير المترتبة عليها، وربما أوصلها إلى عشرين أو ثلاثين محذوراً؛ حتى يقول للناس: دعوها! العالم مصيب؛ لأنه يعتبر أن هذا أسلوب تربوي، فبدل من أن يقول للناس: حرام.
وهو ليس عنده دليل صريح على التحريم، يلجأ إلى نهي الناس عنها دون أن يقطع بتحريمها.
لكن المشكلة تقع حينئذٍ عند طالب العلم، فإنه إذا سمع هذا الكلام؛ أورث في نفسه أن هذه قضية خطيرة وكبيرة، ويترتب عليها مفاسد، وأنها تحدث في المجتمع آثاراً، وتؤثر في عمل الإنسان وحياته وعبادته، فتصبح قضية خطيرة كبيرة؛ لأنه حُشِدَتَ عنده محاذير أكثر من اللازم لهذه القضية، وكان من المفروض أن يقال: الأولى تركها أو الأولى فعلها أو فيها نظر أو أي أسلوب آخر يكون فيه نهي للناس عنها دون أن يتعدى الأمر إلى أكثر من هذا.
ولذلك يقول بعض الأصوليين -وهو الشيرازي -: إني رأيت كثيراً من العوام أكثر حماساً للمسائل الفقهية من العلماء، فالعالم المجتهد -مثلاً- عنده مسألة فيها أقوال، ويعرف كل قول بدليله، وأنه قال به من الصحابة فلان وفلان ومن التابعين ومن الأئمة؛ ولذلك هو رجح أحد الأقوال ترجيحاً يسيراً، وهو يقول: أستغفر الله قد أكون مخطئاً؛ فلا يجزم ولا يتحمس ولا يتعصب ولا ينفعل.
لكن الطالب أو العامي الذي أُفتي له بهذه المسألة، دون أن تذكر له الأدلة، ودون أن تذكر له الأقوال الأخرى، ودون أن توضع في إطار مقبول وموضوعي، تجد أنها ملأت قلبه وصار الدين عنده هو هذا الأمر، والدين عنده هو هذه الفتوى التي أفتاه به فلان؛ لأن فلاناً ليس عنده الوقت لكي يعطيه الأقوال والأدلة، والراجح والمرجوح، فأعطاه خلاصة ما توصل إليه أنه: لا يجوز مثلاً، فصار هذا الإنسان يعتقد أن هذا لا يجوز، وصارت قضية دين يبدئ بها ويعيد، ويهتم بها، ومن رآه يخالفها أجلب عليه، وربما عاداه وأبغضه، وقد يكون مجتهداً في هذه المسألة، وقد يكون الحق معه في أن هذا الأمر ليس بمحرم أيضاً.
كما أن هذا الأمر يورث عند جمهور من الناس، أن هؤلاء الدعاة وطلبة العلم أناس سطحيون، أصحاب قُصر نظر، محصورون في مثل هذه القضايا التي لا هم لهم إلا الحديث عنها.