الأصول والفروع في أمور الحياة الدنيا

كلنا ندرك ببديهة عقولنا، أن هناك أموراً كلية وجزئية أو هناك أصول وفروع، وأن هناك مهم وهناك أهم، وهذا أمر ليس مخصوصاً فقط بما ذَكَرتُ، بل حتى في أمور الحياة الدنيا.

فمثلاً لو نظرنا إلى جسم الإنسان: جسم الإنسان فيه القلب، والمخ، والأجهزة الرئيسية في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم، لا غنى له عنها بأي حال من الأحوال.

لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، قد يُقطع من الإنسان أصبع أو أصابع ويبقى الإنسان حياً سليماً معافى, فليس الاهتمام بالقلب والمخ والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التنفسي -مثلاً- كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع، أو الاهتمام بالبنان وطرف الإصبع، هذا أمر يدركه الجميع.

وكما أنه معروف من الناحية العقلية والطبية والواقعية، فكذلك هو من الناحية الشرعية، فلو أن إنساناً اعتدى على آخر بقطع إصبعه، أو أنملة من أنامله، لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان، أو اعتدى على جهاز حسَّاس، أو تسبب في تعطيل بعض حواسه، التي يحتاج إليها في حياته.

وهذا أيضاً لا يعني التفريط في شيء، لا يعني أن الإصبع ليس لها قيمة ولا أهمية، ولكن لا يعني أن تضع الإصبع مكان القلب، أو مكان المخ، أو مكان الجهاز العصبي، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز التنفسي! تعطي كل شيء بحسبه، ولا تفرط في شيء أو تهمل شيئاً، ولكن هذا كبير وهذا صغير، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا كل وهذا جزء.

مثال آخر: لو تصورت مدينة من المدن كالرياض -مثلاً- أو غيرها، هذه المدينة لسكانها حاجات ضرورية، فمن الحاجات الضرورية مثلاً: الماء، حاجتهم إلى أن يتوفر الماء للشرب، وإلى أن يكون ماءً نقياً صافياً صحياً، قضية الهواء الذي يتنفسونه، أن يكون هواءً نقياً بعيداً عن التلوث، قضية الطعام وتوفير السلع والمواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم وليلتهم.

هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو ماء أو طعام، فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها ولا بد للإنسان منها.

وهناك في مقابل هذا أمور ثانوية، كالأمور الجمالية -مثلاً- والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها، لكن ليس صحيحاً أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية، والقضايا الشكلية والقضايا التحسينية على حساب القضايا الكلية، فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك فيُوفر للإنسان الهواء والمناخ والماء والطعام الملائم، وقبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية، حاجات الدين والخُلق والتقوى، وحاجات الحماية، ومع ذلك إذا استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية والتحسينية ونظافة الشوارع وتحسين الحدائق، هذا أمر جيد ونور على نور.

لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور، فينبغي أن يبدأ بالأهم: توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها، وتلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبها، وإذا لم تتيسر اليوم فقد تتيسر غداً أو بعد غد.

وإذا كان هذا على مستوى مدينة، فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها، فإن المدن الكبرى في أي دولة بما في ذلك العواصم والقصبات الرئيسية، هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول، ولذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نهاية التحدي لدولة، فإنه يحاول أن يعتدي على عاصمتها؛ لأنه يعتبر هذا ضرباً في الصميم، كأنك أصبت إنساناً أو حاولت أن تصيبه في قلبه وفي صميم فؤاده، على أن هناك في مقابل هذا قرى صغيرة في الأطراف، وبوادي وهجر ومدن صغيرة، وأشياء لا شك أن العناية بها ضرورية، وفواتها يعتبر خطراً مهدداً؛ لأنه قد يتطور إلى ما بعده، لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال، بضياع المدن والقصبات الرئيسية.

ولذلك كان الفرسان والقواد على مدار التاريخ، يعتنون بتحصين المدن الكبرى والعواصم عناية خاصة، ويولونها اهتماماً من نوع خاص؛ لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض، وإذا توقف القلب عن دفع الدم -توقف عن النبض- معنى ذلك الحكم على الجسم كله بالزوال والفناء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015