كثير من الأنظمة العربية ممقوتة لدى شعوبها

مثال ثالث: هناك دول قامت، ولكنها قامت على أساس أحزاب أو طوائف أو طبقات، أو حتى أحياناً مجموعة من اللصوص الذين لا هم لهم إلا سرقة أقوات الناس، وإن أمسكت بهم هذه الأحزاب -مثلاً- وخاصة الأحزاب العلمانية، أمسكت بهم بقوة الحديد والنار، وبطشت بهم فطأطئوا رءوسهم وسكتوا، ولكنهم ينتظرون أدنى موقف أو أدنى ارتباك، حتى ينقضوا عليها ويحاربوها ويتبرءوا منها، وأقرب مثال الاتحاد السوفيتي أكثر من سبعين سنة وهو قوة ضاربة، العسكريون فقط بمئات الألوف يعدون، والتابعون لجهاز الاستخبارات مئات الألوف أيضاً، كل همهم إخافة الناس، مع ذلك في سنوات معدودة تهاوى هذا الصرح الشامخ وسط شماتة الناس، وأكثر الشامتين به هم الذين عانوا من آلامه ومتاعبه ومصائبه.

وذلك لأن تلك الدولة الشيوعية لم تقم على عروش القلوب، قامت بالقوة والتسلط والبطش والإرهاب فأخافت الناس، ولأنهم ضعفاء سكتوا فعلاً، ولكن لما شعروا بأن هذا الكابوس بدأ يتزعزع قاوموه وحاربوه، ولو كانوا يملكون القوة من قبل لقاوموه وحاربوه قبل ذلك.

ولا شك أنك تعلم أن عدداً كبيراً من الأنظمة العربية التي تحكم المسلمين اليوم، لم تحض بأي لون من ألوان التأييد الشعبي من جماهير الأمة، ولم يتعاطف معها المسلمون بقلوبهم، ولم يقتنعوا بها بقلوبهم أيضاً، ولكنهم رضوا بها لأنهم لا يملكون أسلوباً لتغييرها، وعلى رغم أنهم ضعفاء إلا أنهم يعبرون على الأقل تعبيراً سلبياً، فلا يعنيهم أمر الحاكم مثلاً عاش أو مات، ارتفع أو انخفض، لأنهم لا يعتبرون أنه معبر عن مشاعرهم، عن طموحاتهم، عن آمالهم، عن آلامهم، أو ممثل لهم في دينهم، كما هي الحال بالنسبة للحاكم المسلم.

الحاكم المسلم الذي يقودكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث أم الحصين الذي هو في صحيح مسلم أيضاً، هذا الحاكم تجد كل فرد يفديه بروحه، ولو استطاع أن يصل عمره ببعض عمره لفعل، ويقول: نفسي دون نفسه، وروحي دون روحه.

أصبحت الأمة الآن تقبل على همومها الخاصة، تحتج على فساد الأوضاع بما يسمى المقاطعة الشعورية، تقاطع هذه الأمور، ولا أدل على ذلك مما يسمى بالانتخابات التي تقام الآن في أكثر من بلد من البلاد العربية والإسلامية -وهي قليلة على كل حال- لكن تجد أن نسبة المشاركين في هذه الانتخابات نسبة قليلة جداً؛ لأنهم غير واثقين بهذه الأمور، ولا مصدقين لها، ولا متعاطفين معها، ويعرفون أن النسبة المقررة سلفا ًهي فوز الحاكم الفلاني بنسبة (99.

9%) أيضاً.

ولذلك لا يرون ثمة داعياً للمشاركة، ويكتفون بالمقاطعة الشعورية لمثل هذه الأوضاع، فالشعوب الإسلامية تعيش في وادٍ، وحكامها يعيشون في وادٍ آخر، لأنهم لا يعبرون عن حقيقة مشاعرها التي في قلبها، ولا يمثلون حقيقة الدين التي تنتسب إليه، وهذا لا شك يجعل أنهم في حالة ضعفهم مستسلمون، لكن لو جدوا أن أي خطر يهدد هذا الحزب الذي يبطش بهم، أو هذه الطبقة التي تحكمهم لما تعاطفوا معها، ولا وقفوا إلى جنبها، بل كانوا يفرحون بذلك، بل كانوا هم أول المؤيدين لذلك.

يؤسفني جداً أن أقول في مقابل ذلك: هناك دول قامت على أساس قناعة الناس بها، فكانت راسخة عميقة ممكنة، أما دولة الإسلام التي تحكم المسلمين منذ عهد الخلافة الراشدة، فهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان، فقد ظلت دولة الخلافة قائمة قروناً طويلة تزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان، تحميها القلوب قبل الأيدي، وتحميها الدعوات قبل المعارك والضربات.

أما في واقعنا اليوم فالمؤسف أن الأمثلة التي تتجه إليها الأنظار غالباً هي أمثلة غير إسلامية، فمثلاً الدول الغربية كلها، كيف استطاعت أن تمكن لنفسها في الأرض؟ استطاعت من خلال إشعار جمهور الناس بأنهم شركاء في إدارتها وفي تدبير شئونها، وفي أخذ رأيهم في الدقيق والجلي.

فالمواطن منهم يشعر أنه يستشار في كل شيء، وأنه يستطيع أن يقدم رأيه في أي أمر، ويستطيع أن يحتج، ويستطيع أن يعترض، ويستطيع أن يقول ما يراه مناسباً دون أن يخاف من بطش، وهذا ما يعبرون عنه لغتهم بالديمقراطية، الليبرالية الغربية، لا شك هي ديمقراطية نظام غير إسلامي، ولكنهم أفلحوا في كسب ثقة شعوبهم وقناعتها، ولهذا يعشون أوضاعاً من الاستقرار لا تعيشها البلاد الأخرى على الإطلاق.

مثل آخر دولة إسرائيل، يحدثني أحد الإخوة الفلسطينيين -وقد زارني قبل أسبوعين- يقول: لا يكاد يوجد في إسرائيل يهودي واحد يعتبر مدنياً بالمعنى الصحيح، كلهم عسكريون أو كانوا في يوم من الأيام عسكريين، أو جندوا للخدمة وقتاً من الأوقات، أو يعملون في بعض الأجهزة الأمنية السرية أو العلنية، بمعنى أن الشعب كله مجاهد، الشعب اليهودي مقاتل، يقاتل عن عقيدته الفاسدة، يقاتل عن دينه، يقاتل عن حدوده، يقاتل عن عرقيته وعنصريته، وأفلحت دولته الفاسدة الكاسدة في إقناع كل مواطن يهودي بأن الدفاع عن إسرائيل -أو ما يسمى بإسرائيل- واجبه هو، وليس واجب حكومة معينة، أو وزراء معينين، أو تكتل، أو تحالف، لا، واجب كل فرد، ولهذا ما من إنسان إلا وقد خدم أو يخدم الآن؛ أو سوف يخدم مستقبلاً إما سراً أو علانية، إما عسكرياً أو أمنياً أو غير ذلك، فهو بناء يتضافر الجميع على دعمه وترسيخه وتأييده، ويشد بعضه بعضاً.

ولو أردنا أن نضرب بعض الأمثلة الإسلامية لما أعجزنا أن نضرب المثال -أيضاً- بما حصل في الجزائر، فإن الانتصار الذي حققته جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر يعتبر انتصاراً كبيراً للإسلام، فقد أفلحت هذه الجبهة في جعل الإسلام هماً سياسياً للمواطن العادي، فكل مواطن عبر عن اختياره للإسلام، حتى عبر أكثر من (82%) منهم عن أنهم يريدون الإسلام ولا يريدون سواه، وهذا بحد ذاته مكسب كبير، لأنه كشف لنا أن الجبهة هناك نجحت في مخاطبة الشارع الإسلامي، مخاطبة الفرد الإسلامي أن لا يعتبر أن مهمة الحكم بالإسلام مهمة مجموعة من العلماء يجب أن يفعلوا، ولا مهمة مجموعة من الدعاة ينتظر منهم أن يقولوا، لا، إنها مهمة كل إنسان مسلم في الجزائر أن يسعى بما يستطيع إلى التصويت للإسلام ولصالح الإسلام، والعمل على تحكيم شريعة الله تعالى في الأرض.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015