جيل الصحابة

انظر إلى الجيل الأول الذي قام على يديه الإسلام أول مرة، هل قام الإسلام أول مرة على يد أفراد محدودين من الناس؟ كلا، بل قام على يد جيل كله كان يتحرك للإسلام، وكله كان يشتغل بقضية الإسلام، وكله كان يراقب سير الدعوة، فيصحح إن احتاج الأمر إلى تصحيح، ويؤيد إن احتاج الأمر إلى تأييد، ويعارض إن احتاج إلى معارضة، كلهم كان معنياً بأمر الإسلام.

ترجم ابن الأثير -مثلاً- في أسد الغابة لما يزيد على سبعة آلاف وسبعمائة صحابي ما بين رجل وامرأة، لا تجد في ترجمتهم أحداً منهم مغموراً، لا بد أن تجد للواحد منهم مشاركة في بناء صرح الإسلام، ومساهمة في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وأنت تجد في الأحاديث ذكراً لأشخاص رجالاً ونساءً ربما يجهل الواحد منا أسماءهم الآن.

فمثلاً: من هو الذي لم يسمع بحديث ذي اليدين؟ {لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيء الظهر أو العصر، سلم من ركعتين، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رجل يقال له: ذو اليدين -في يديه طول- فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال عليه الصلاة والسلام: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وأكمل ما عليه ثم سجد السجدتين} .

ما اسم ذي اليدين؟ يقولون اسمه الخرباق بن عمرو، وقيل غير ذلك، ليس المهم اسمه، المهم أن الرجل قام بدور في عملية بناء الإسلام، وهذا الرجل قد يكون مغموراً عند الكثيرين.

وفي مجال النساء مثلاً، المرأة التي كانت تقمّ المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً، كانت تقيم المسجد فماتت فدفنوها، ففقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنها، فقالوا: ماتت يا رسول الله! قال: {هلَّا آذنتموني، قالوا: إنها ماتت في الليل فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فذهب إلى قبرها صلى الله عليه وسلم وكبر عليه أربعاً} .

هذه المرأة قامت بعمل كبير في بناء الإسلام، في بناء صرح الإسلام، وتعزيز مكانته، كانت تقمُّ المسجد وهذا عمل عظيم، ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رضاه عن العمل التي كانت تقوم به بأن سأل عن قبرها وكبر عليها أربعاً بعدما دفنت، واستغفر لها النبي عليه الصلاة والسلام.

فالجيل الأول كله كان جيلاً فعالاً، ولا أدل من ذلك من قول ربنا عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] .

فوصف الله تعالى الذين آمنوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف، التي تشمل كل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، على تفاوت في درجاتهم وطبقاتهم، فبالتأكيد ليست منزلة أبي بكر مثلاً أو عمر، كمنزلة رجل من مسلمة الفتح، لكن كلهم يدخلون تحت عموم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] كلهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

وهذه امرأة اسمها أم هانئ أجارت رجلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ} {المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عنهم أحدهم، وهم يدٌ على من سواهم} .

ولذلك حتى فَقْدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليمنع بقاء الإسلام وانتصاره، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تولَّى بعده أبو بكر رضي الله عنه، وحمل الراية من بعده، ومع أنه لا مقارنة فرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ بالوحي من السماء، ومع ذلك فإن أبا بكر قد قام بالأمر من بعده خير قيام، ورضيه الناس لدينهم ودنياهم، كما رضيه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح في عقيدة المسلم أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر.

إذاً هناك سر في انتصار الإسلام أول مرة، ورسوخ دعائمه واستمراريته، هو أن الإسلام لم يكن همَّ شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هم أربعة هم الخلفاء الراشدون، ولم يكن هم عشرة هم المبشرون بالجنة، ولم يكن هم ألف وأربعمائة أيضاً هم الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، كلا، بل كان هَمَّ جيل بأكمله.

ولن يفلح وينجح ويصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي بأن يكون أمر الإسلام هماً يشغل كل مسلم، قد يقول قائل: كيف ذلك؟ فأعطيك بعض الأمثلة الموجودة على الساحة اليوم، التي تدلك على نجاح الأمر حينما تعانيه الأمة كلها، وفشل الأمر حينما يكون هماً لفئة خاصة، خذ مثلاً قضية أفغانستان، نعتبر أنها قضية نجحت إلى حد كبير، وبغض النظر عما يمكن أن يتم الآن أو بعد حين، لكن الأمر الذي حصل يعتبر نجاحاً، فقد نجح المسلمون في تحطيم الحكم الشيوعي في أفغانستان، وزحزحته، وإقامة حكومة للمجاهدين، إلى هذا الحد يعتبر نجاحاً، ولا شك أن الأمر الأكبر والمؤثر في ذلك هو عون الله عز وجل، وكما قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

طور بواسطة نورين ميديا © 2015