مثلٌ آخر ولعلنا نعيشه الآن، أحداث يوغسلافيا، وما يلقاه المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب النصارى من قتل وتشريد، وذبح وتطريد، لا زالت تتحدث عنه وكالات الأنباء، هذا الوضع من جهة أنت تجد تفاعل المسلمين على أشده مع هذه القضية، والأموال التي جمعت في هذا البلد وفي بلاد أخرى كثيرة أموال بحمد الله طيبة جداً، يعلم بذلك كل من ساهم في جمع شيء لأولئك المسلمين المنكوبين المطرودين المسفوكة دماؤهم على مرأى ومسمع من العالم.
القضية الآن في طريقها إلى أن تتحول إلى هم شعبي، يعانيه كل مسلم في أي بلد، فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولو حدث هذا، لما أمكن أن ينهزم المسلمون بإذن الله، لا في أفغانستان، ولا في يوغسلافيا.
ولذلك أنت تلحظ أمراً إن كنت أدركته وإلا فلتتأمله الآن: العالم الغربي الآن، -العالم النصراني- يحاول أن يلتف على قضية يوغسلافيا، يلتف عليها بالدعاية الإعلامية، مثلاً: صرح وزير الخارجية الأمريكي بتصريح شديد اللهجة ضد الصرب، وقال: إنني أطالب العالم أن يتخذ موقفاً صارماً وقوياً ضد هذه المذابح الرهيبة التي لم يشهد لها مثيلاً منذ قرون.
وزير الخارجية الأمريكي يصرخ بالعالم ويستنجد لصالح المسلمين في يوغسلافيا سبحان الله! ما الذي تغير؟ الأمر بسيط يا أخي، إن أمريكا لا تستنجد بالعالم، بل العالم هو الذي يستنجد بها في العادة، وأمريكا لما أرادت أن تتدخل في أكثر من بلد ما احتاجت إلى تصريحات حماسية، ولا احتاجت إلى خطب رنانة، بل كل ما في الأمر أنها دعت مجلس الأمن إلى الاجتماع واتفقت على اتخاذ إجراءات حاسمة، التدخل هنا، والضغط هناك، والحصار الاقتصادي ضد هذا البلد، والحصار العسكري ضد ذاك البلد، وغير ذلك حتى أفلحت في تحقيق ما تريد، وما أحداثها في العراق -مثلاً- ثم في ليبيا، ثم في غيرها من البلاد إلا خير شاهد على ذلك.
إذاً: لم تكن أمريكا بحاجة إلى أن تصرخ وترغي وتزبد، وتقول: أين العالم المتفرج؟! يجب أن تتدخلوا يا عالم، لأن العالم يعتبر أن أمريكا الآن هي الزعيم المتوج لهم، ولكن هذه التصريحات هي للاستهلاك المحلي فقط، ولتخدير مشاعر الناس، ولئلا يقول الناس: أين دور الغرب؟ أين دور أمريكا؟ أمريكا تتحالف مع النصارى، من أجل ألا يقال هذا، رأوا أن المسلمين تكفيهم التصريحات فصرخوا حتى يهدأ الناس، وصرخوا أيضا لأنهم لا يريدون أن تثور المشاعر الإسلامية، لا يريدون أن تكون قضية يوغسلافيا قضية كل مسلم، لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين لو شعروا كلهم أن هناك حرباً صليبية تدبر ضدهم لم يقف أمامهم أحد.
حتى وإن كانوا عزلاً من السلاح، حتى ولو سلط عليهم، حتى ولو وقف في وجوههم من وقف، والله لو شعرت الأمة الإسلامية وأقول: حتى الذي لا تربطهم بالإسلام إلا رابطة الانتماء الوراثي، حتى الذين لا يؤدون الصلوات، لو شعروا أن هناك حرباً توجه إليهم؛ لأنهم أولاد مسلمين، أو لأنهم يعيشون في رقعة إسلامية، أو أن اسم الواحد منهم أحمد ومحمد علي وصالح، لو شعروا بهذا لرجعوا إلى دينهم واستقاموا على أمرهم، وحاربوا وقاوموا.
وما بالك بألف مليون إنسان لو غضبوا؟! لا يقوم لغضبهم شيء، فلهذا يداري العالم الغربي، يداري غضبهم، فيحاول أن يشعرهم، أو يعطيهم في كل وقت إبراً مخدرة تلهيهم وتجعلهم لا يدركون هذه الحرب النصرانية الصليبية التي تدبر ضدهم.
إذاً: فالغرب يدرك القضية التي نتحدث عنها الآن، إن أي قضية لكي تنجح يجب أن تكون هماً للجميع: الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المثقف والعامي، العالم وغير العالم، وإذا أفلحنا في جعل قضايا الإسلام هماً للجميع فمعنى ذلك أنها قضايا ناجحة بلا شك، ونقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
فهذه قضايا اهتم بها الناس فصارت في طريقها إلى النجاح والفلاح، لكن في مقابل ذلك، تجد هناك أنواعاً أو جهادات أخرى في بلاد مختلفة لم تحض بكسب الاهتمام بما فيه الكفاية، فظلت تراوح في مكانها منذ زمان بعيد، فكثيرون كانوا يسمعون أخبار الجهاد في هذا البلد أو ذاك، وكثيرون سمعوا بالمدينة التي دمرت على أهلها، وهدمت مساجدها على رءوس المصلين، وقتل فيها في ضحوة واحدة ما يزيد على عشرة آلاف أو عشرين ألف مسلم.
وكثيرون يتحدثون عن مذابح رهيبة حصلت لأحد الشعوب المسلمة من عدد من الدول التي تتقاسم حكمهم، وقتلتهم بطريقة وحشية، وسكت الإعلام الغربي عن تلك المذابح، وسكت الإعلام العربي تبعاً لذلك، حتى مجرد العلم بهذه المذابح لم يعلم بهم أحد، فضلاً عن أن يحزن لهم أو يتحرك من أجلهم.
ولما احتاج الإعلام العربي أن يتكلم عن تلك المذابح نكاية بأحد الأنظمة، تكلم ولكن بعد فوات الأوان، وبعد خراب البصرة! إذاً قضايا المسلمين الواقعية، وجهاد المسلمين، ومواجهة المسلمين لخصومهم وأعدائهم، لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أفلحت أن تصل إلى عقول كل المسلمين، وإلى قلوب كل المسلمين، أو على الأقل جمهور المسلمين فلا يكون ثمة حواجز بينها وبينهم، لا تخاطب النخبة المثقفة أو علية القوم أو العلماء أو الساسة والسادة والرؤساء لا، بل تخاطب المسلم أياً كان، وتناديه، وتصل إلى قلبه وعقله، هذا مثال.