موقف آخر أغرب من هذا، إلى رجل آخر، يتصرف في شعيرة عظيمة ألا وهي الصلاة، وبأسلوب عجيب غريب، كما هو شأن كثير من الأعراب، وانظروا إلى أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة هذا الموقف، يقول معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه: {بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم في الصلاة، فقلت له يرحمك الله -رجل جاهل ظن أن تشميت العاطس في الصلاة مشروع، فقال له: يرحمك الله- قال: فرماني القوم بأبصارهم -ينظرون إليه على سبيل الاستنكار لما فعل- قال: فقلت: واثكل أمياه -الثكل هو الفقد، أي كأنه يقول: وافقد أمي- ما شأنكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم كأنهم يسكتونني، قال: فلما رأيتهم يصمتونني سكت -كأنه يقول: لما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت من فعلهم، ولكني آثرت الصمت فسكت- قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي -أي أفديه بأبي وأمي إعظاماً له وإعجاباً بأسلوبه صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم- يقول: والله ما كهرني -أي ما نهرني ولا تغير علي- ولا ضربني ولا شتمني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه، قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي ذكر الله والتسبيح والتكبير وقراءة القرآن} ولم يزد صلى الله عليه وسلم على ذلك، فاطمأن به هذا الرجل وزاد فيه حباً وإعجاباً، ولذلك قدم لهذا الخبر بقوله: والله ما رأيت معلماً قط أحسن منه، ما ضربني ولا كهرني ولا شتمني، وإنما أخبره بالأمر بكل يسر وسهوله، فاطمأن هذا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفتحت نفسه لسؤاله، وصار يتذكر الأشياء التي تشكل عليه في أمر دينه حتى يسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: {يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان -يسأله عن ذلك- قال صلى الله عليه وسلم: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنك-أي إذا تطير الإنسان بشيء في قلبه، فيجب أن يمضي لما أراد ولا يلتفت إلى ما حاك في صدره، وليتوكل على الله- قال: ومنا رجال يخطون، -أي يخطون في الرمل خطوطاً، يدعون أنهم بها يتعرفون على الأشياء والنتائج وأسبابها- قال صلى الله عليه وسلم: كان نبيٌ من الأنبياء يخط؛ فمن وافق خطه فذاك} وهذا على سبيل التعجيز لهم، أي أن هذا النبي لا يعلم خطه، وإنما هو أمر اندرس، ولم يطلع الله تبارك وتعالى عليه أحداً من خلقه، فهيهات هيهات أن يدرك أحد خط هذا النبي، وكأن هذا على سبيل التوبيخ لهؤلاء القوم، وعدم الرضى بفعلهم، وكأنه يقول لهم من أين لكم أن تصيبوا بخطكم؟ هل نزل عليكم وحي أن خطكم يوافق خط هذا النبي؟! فهو على سبيل النهي والتحريم للخط.
{قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحد والجوانية- موضع قرب المدينة فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها قال: وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، قال: فلطمتها أو صككتها صكة -وكأنه يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ما كفارة ما فعلت- فعظم ذلك عليه، قلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتاه بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة} .
الشاهد من هذا الحديث أن هذا الرجل تكلم في الصلاة بكلام لا يجوز فيها، فشمت من عطس، ثم قال: واثكل أماه! لما صمته الناس، ومع ذلك كان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم هو ما رأيتم، فأعجب بأسلوبه صلى الله عليه وسلم، وانفتحت نفسه ليسأل عن دينه.
أما لو ووجه مثل هذا الرجل الجاهل بأمر دينه بأسلوب الغلظة والقسوة لربما دعاه ذلك إلى أن يخرج من دينه، أو على الأقل أن يترك ما يجهل من أمر دينه فلا يسأل عنه.