الوسيلة الرابعة من وسائل العلاج: هي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تبارك وتعالى أسوة وقدوة للمؤمنين الذين يرغبون أن يردوا حوضه، ويرغبون أن يحشروا في زمرته، ويرغبون أن يكونوا من جلسائه في جنات النعيم، ويرغبون أن تشملهم شفاعته يوم الدين، فكيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء؟ 1- في الإيمانيات: انظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد والإيمانيات، أعطاهم الدين يسيراً واضحاً لا تعقيد فيه ولا إشكال، وبين لهم أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وحين جاء الصحابة يشتكون إليه ما يجدون من وسوسة الشيطان، هون الموضوع عليهم صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كما في صحيح مسلم: {هل وجدتموه قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان، الحمدالله الذي رد كيده إلى الوسوسة} فبين لهم أن ما أصابهم هو بسبب إيمانهم؛ لأن الشيطان إنما يوسوس في القلب الذي فيه إيمان، واللص لا يتسور البيت الخرب، وإنما يتسور البيت المليء بالحلي والذهب، فهذا الوسواس وشعور المؤمن بكراهيته وخوفه منه هو دليل على الإيمان، لكن عليه أن يعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الآخر الصحيح: {فليستعذ بالله ولينته} وهو في الصحيحين، وحين ذكر أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن الشيطان لا يزال يسألكم مَنْ خلق كذا، مَنْ خلق كذا، حتى يقول: مَنْ خلق الله، فليقل الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وفي حديث صحيح {أنه أمره بقراءة قل هو الله أحد} .
إذاً: القضية سهلة وميسرة وهي أن عليك أن تغفل هذا الأمر ولا تعيره اهتماماً، اقرأ هذه الأدعية والأذكار وتحصن من الشيطان، وادع الله عز وجل ولا تكترث بهذا الأمر، فكثرة تفكيرك به وحرصك الشديد المبالغ فيه على مدافعته يجعل الأمر يزيد وينتشر في قلبك، فإن الشيطان مثل الكلب، إذا التفتَّ إليه ودافعته فإنه ينبحك ويركض وراءك، فإذا أعرضت عنه نبح مرة أو مرتين ثم ذهب وتركك.
هذا جانب من هديه صلى الله عليه وسلم في الإيمانيات.
2- في قضايا المياه: تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في قضايا المياه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر في شرقي المدينة يلقى فيها النتن والحيض ولحوم الكلاب، فقالوا: يا رسول الله! إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن، والحيض، ولحوم الكلاب، فقال صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء} والحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وغيرهم، وصححه أحمد، ويحي بن معين، والترمذي، وغيرهم، فهو حديث صحيح، فلا وسع الله على من لم يسعه هدي محمد صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء} .
وكان من هديه أن يتوضأ بكل ماء إلا أن يظهر على هذا الماء أثر نجاسة بلونه أو طعمه أو ريحه، توضأ من قصعة فيها من اثر العجين، وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ من الحياض، والمقالي التي تردها السباع والدواب في الصحراء، فقال بعض الصحابة، لعله عمر بن الخطاب أو غيره بحسب الروايات: {يا صاحب المقراة! أخبرنا عن مقراتك تردها السباع، أم لا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تخبره، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور} والحديث صح عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري في السنن وغيرها، وقيل له كما في حديث جابر: {يا رسول الله! أنتوضأ بما أفضلت الحمر، قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها} رواه الدارقطني، والبيهقي بأسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض أصبحت قوية كما يقول البيهقي.
وفي حديث عائشة عند الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم: {جيء له بماء يتوضأ، فأقبلت الهرة فأصغى لها الإناء لتشرب ثم توضأ بفضلها} .
هذا هديه صلى الله عليه وسلم في المياه، ما تنطّع وما تشدّد على نفسه، ولا ذهب ليسأل هل هذا الماء طاهر أو نجس أو ما أشبه ذلك، ثم كان يتوضأ بالماء القليل، فكان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، والمد هو قدر راحة الإنسان المتوسط مبسوطتين، -كما يقول صاحب القاموس وغيره- يتوضأ بقدر ما يملأ راحتيك إذا مددتهما وبسطتهما وملأتهما بالماء، ويغتسل بالصاع: وهو أربعة أمداد بل يغتسل بما دون ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل معها بإناء يسع ثلاثة أمداد أو نحو ذلك، وكان يغتسل مع زوجاته، مع عائشة، وأم سلمة، كما في الصحيحين ويغتسل بفضل ميمونة كما في صحيح مسلم، ومعروف أن آنيتهم كانت صغيرة، وعائشة وأم سلمة تقولان: إنهما كانتا تغتسلان معه، فـ عائشة تقول: {كنت أغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء تختلف أيدينا فيه} كأن هذا الإناء الصغير لا يسع يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويدي أم المؤمنين فإذا رفع يديه، أدخلت يديها، زاد البخاري من حديث عائشة، {فيبادرني، وأبادره} أي: كل واحد منهما يستعجل ليأخذ شيئاً من الماء وفي رواية النسائي: {حتى أقول: دع لي دع لي، ويقول: دعي لي دعي لي} ما كان يتوضأ بإناء يسع خمس قرب أو ست قرب، ولا كان يفتح الصنبور مدة ربع ساعة أو نصف ساعة صلى الله عليه وسلم.
3- هدي النبي في الطهارة: ثم هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء: كان يتوضأ مرة، مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، كما في الصحيحين لا يزيد على ذلك، وسبق قبل قليل الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء، وتعدى وظلم} ثم انظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في النجاسات في الثياب وغيرها، كان يحمل الصبيان والغلمان فربما بال أحدهم على ثوبه صلى الله عليه وسلم، فلا يصنع عليه الصلاة والسلام أكثر من أن يدعو بماء فيرشه وينضحه بالنسبة للصبيان، كما في الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن ومن حديث عائشة في صحيح البخاري، وأحاديث كثيرة ربما بلغت حد التواتر: {وهي أنه كان ينضح ما يصيبه من بول الصبيان} وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع زوجاته، وربما أصاب ثوبه شيء من دم الحيض فيكتفي بأن يغسل موضع الدم ثم يصلي به صلى الله عليه وسلم، وربما أصاب ثوبه شيء من منيه عليه الصلاة والسلام، فاكتفى بأن يفركه، أو تفركه إحدى زوجاته إن كان يابساً، أو تميطه بخرقة، أو أذخرةٍ، أو تغسله إن كان رطباً.
وفي صحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم: {صلى والمني في ثوبه، فكانت عائشة تفركه من ثوبه وهو يصلي} .
وسأل معاوية رضي الله عنه أم المؤمنين أخته كما عند الطحاوي وغيره بسند صحيح: {أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يضاجعك أو يجامعك فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى} .
ثم تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في هذا تجد أنه أكمل الهدي، وأسلمه، وأبعده عن التعمق، والتكلف وأخذ هذا عنه أصحابه رضي الله عنهم، فما كانوا يقبلون غير ذلك، وكذلك أخذه عنه من بعدهم، فكان التابعون يتوضئون بالماء اليسير، حتى أن منهم من توضأ بنصف المد، ومنهم من توضأ بربعه، وهذا كما يقول ابن قدامة مبالغة شديدة، ومنهم من توضأ فلا يبل وضوءه الأرض، وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: من فقه الرجل قلة وضوئه بالماء، وقال المغوزي: أردت أن أوضئ الإمام أحمد وأنا في العسكر، فسترته من الناس لئلا يراه العوام فيظنون أنه لا يحسن الوضوء لقلة استعماله للماء.
انظروا إلى هديه صلى الله عليه وسلم في انتقاض الوضوء الذي ابتلى كثير من الموسوسين بأنه قد يكون خرج منه شيء، فيعيد الوضوء مرات -كما سبق- ويتنطع، ويذهب لينظر في ذكره وما أشبه ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في حديث عبد الله بن زيد: {شُكِي إليه الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} وفي حديث أبي هريرة بنحو ذلك.
إذاً: الطهارة أصل، والحدث طارئ عليها مشكوك فيه فلا ينصرف حتى يقطع بأن حدثه قد انتقض، ولا ينبغي أن يشغل نفسه بالتفكير والنظر هل خرج منه شيء أو لم يخرج، لكن إذا علم ذلك بصوت أو ريح أو ما أشبههما من الوسائل اليقينية القاطعة فحينئذٍ يتوضأ، أما تكرير الوضوء وإعادته وتكريره وكثرة العرك، والفرك فهذه من مخالفة هدي طائفة السلف رضي الله عنهم.
4- هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة: كذلك هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وعدم الوسوسة أو كثرة التكرير أو الشك فيها كما يفعل كثير من الموسوسين في التكبير، ثم في أفعال الصلاة ربما زاد وربما نقص، وربما أعاد وربما لا يكاد يصلي أحد منهم إلا ويسجد للسهو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعيداً عن هذا كله مع استحضار قلبه للصلاة وخشوعه فيها، وكمال ذكره، قل ما يسهو، وربما سها فنبه إلى ذلك كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين فاستقبل القبلة فصلى ركعتين ثم سجد للسهو صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص، وهي بنت بنته صلى الله عليه وسلم فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها وهذا أيضاً في الصحيحين، وربما صلى صلى الله عليه وسلم وبجواره الحسن أو الحسين فارتقى على ظهره عليه الصلاة والسلام، فتأخر في السجود حتى ينزل، فيسأله