ثم إني ما قلت لك مما أخبروني عنك شخصياً إلا أقل القليل، نعم، ولقد أخبروني عنك أنك كنت تبحث بالأمس عما يطفئ الشهوة، ويهدئ لهيبها، أما اليوم فقد انقلبت الآية، واختلف الأمر، فأنت تبحث عن ما يؤجج الشهوة، ويثيرها ويحركها، وينفر مختبئها، ويخرج كامنها، لقد شربت الكأس الأول من المعصية، أو من الشهوة، على لذةٍ ووجدت شيئاً من طعمها، أما الكأس الثانية فهي عادة لا طعم فيها ولا سرور معها، ولكنها أمرٌ أصبح جزءاً من حياتك، وعادةً يصعب عليك أن تتركها.
إذا كان صحيحاً ما بلغنا أنك في النهار تترقب الليل، أفلا تترقبه للصلاة والقيام، كما يفعل الصالحون؟ وإذا كنت تترقب الليل أفلا فكرت قليلاً في النهار الذي يتلوه، حينما تذهب اللذة وتبقى الحسرة؟ إن أهنى عيشةٍ قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل وإن اغتفرنا لك -وهيهات هيهات- زمان الصبا، وعمر المراهقة، وفترة الطيش والجهل وغرور الشباب، فكيف ترى يغتفر لك الأمر وهو خطبٌ جلل، وهاأنت قد تجاوزت سن المراهقة، بل وتزوجت وأنجبت ورأيت طفلاً ترجو أن ينشأ نشأةً صالحة، وتحب له الخير، ويسرك أن يكون على أحسن حال، وهاأنت تعيش في بيتك، وتحت سقفك مع زوجةٍ ترجو لها الصلاح، وتحب لها الخير، ولا ترضى أن يظهر منها أنملة، ولا أن يسمع منها همس صوت، ولا يسرك أن يتحدث عن عرضها قريب ولا بعيد.
أصحيح أنك ترى الخاشعين والباكين والراكعين والساجدين، وأهل الطواف وأهل الاعتكاف، ثم تنظر في قلبك وتتحسس في وجدانك، فلا تجده إلا قاسياً غليظاً كما عُهد؟! أيصح عنك أنك صاحب أخبارٍ وأسفار ومغامراتٍ ومقامرات؟! أما هجس في قلبك يوماً أن تسقط الطائرة وأنت فيها؟! أو تنقلب السيارة وأنت داخلها؟ أو أن يؤذيك الصداع فيصارحك الطبيب أنها بداية جلطة في المخ أو في القلب؟! : {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل:45-48] قال ابن عباس وقتادة: [[في أسفارهم فيصيبهم بالبلاء وهم مسافرون، في جوهم أو بحرهم أو برهم.
وقال أيضاً: يأخذهم في منامهم]] .
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا وكم من فتىً أمسى وأصبح سالما وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وقال الضحاك وابن جريج ومقاتل: [[أي يأخذهم في ليلهم ونهارهم، فإن الليل والنهار مطايا، يسلمك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل]] .
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا