أخطاء فردية

النوع الأول: ما يمكن أن يسمى بأنها أخطاء فردية، كمثل رجل سرق، وآخر زنى، وثالث كذب، ورابع اغتاب، فهذه أخطاء فردية توجد في المجتمع النبوي، ولو قرأت في كتب السنة لوجدت أنه ظهر الآن لنا بعد ألف وأربعمائة وعشر سنوات، أن فيه مجموع من الأخطاء من أفراد المؤمنين، مثلاً: ماعز بن مالك الأسلمي رضى الله عنه زنى، وكذلك الغامدية رضي الله عنها زنت، رجل آخر سرق، ورجل آخر غل، وثالث كذب، إلى غير ذلك، فهي مجموعة من أخطاء يمكن إحصاؤها.

لكن لاحظ أنهم كانوا خطئوهم وكان خطأهم يتميز عن غيرهم بأن الإيمان موجود مستقر في النفوس، والصلة بالله عز وجل قائمة، والإحساس برقابته موجودة، وإن حصلت بادرة خطأ، لكن يكون توبته منها أمر عجيب.

قصة ماعز: مثلاً ماعز بن مالك الأسلمي يأتي للرسول عليه الصلاة والسلام وقد وقع في الزنى وندم عليه، ومع ذلك يأتي للرسول ولو تاب وستر نفسه لستره الله وتاب الله عليه؛ لكنه ما رضي، فيأتي للرسول عليه السلام في مجلسه ويقف أمامه، ويقول: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، ثم من هنا: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، والرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عنه أربع مرات، وكلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم قام الرجل وجلس أمام وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني زنيت فطهرني، والرسول عليه الصلاة والسلام يريده أن ينصرف ليتوب فيتوب الله عليه، وهذا أولى لكنه لم يفعل من شدة الاحتراق في قلبه، وشدة الخوف من الله، حتى فضح نفسه أمام الناس فدعاه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: استنكهوه -أي شموه قد يكون سكران الآن ويدلي بهذا الاعتراف- فلم يجدوا شيئاً، ثم دعا النبي قومه وقال: ماذا تعرفون عن ماعزٍِ؟ قالوا: يا رسول الله! ما نعلم عنه إلا خيراً، رجل من أفضلنا وأعقلنا لكنه أصابه ذنباً لا نرى أنه يخرج منه إلا ذلك، فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم حكماً بأن يرجم؛ لأنه كان محصناً متزوجاً فرجم.

هذا نموذج لصدق التوبة فحين يخطئون كانت تظهر منهم رجولة وصدق، ورجوع لا يوجد عند من بعدهم.

قصة الغامدية: وأعجب من قصة ماعز قصة الغامدية، وأنا ما وقفت أمام هذه القصة إلا أتعجب منها أشد العجب.

جاءت الغامدية بعد قصة ماعز، ولذلك كانت الغامدية تعرف ما مصيرها، وتدري ما هو العقاب الذي ينتظرها وقد زنت وهي محصنة.

فجاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالت: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه عليَّ، إني زنيت فطهرني، فأعرض عنها الرسول عليه الصلاة والسلام لعلها تذهب فتتوب فيتوب الله عليها، لكن المرأة ما قبلت، وقالت: يا رسول الله! كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً والله إني لحبلى من الزنا.

غريب أهذا منطق امرأة! لكن الإيمان يصنع المعجزات، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أما الآن -يعني مادام الأمر كذلك- فاذهبي حتى تلدي} وإن ذهبت وما رجعت تاب الله عليها وانتهى الأمر، لكنها يمكن أن نقول: إنها أول مرة كانت لكونها حديثة عهد بالمعصية، المعصية قريبة ولازال يكون الندم شديداً؛ لأن الإنسان إذا وقع في معصية أول ما يقع يندم ندماً شديداً، ثم يبدأ الندم يخف حتى يذهب أحياناً، فيمكن أن نقول: أنها أول مرة جاءت بسبب شدة الندم مع أنها لم تكن تعلم أنها حامل إلا بعد وقت من وقوع الجريمة.

ولما ولدت الصبي، وبمجرد ما ولدته؛ جاءت به ملفوفاً في خرقة تحمله: يا رسول الله! هذا الصبي قد ولدته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} رجعت المرأة، تعهدها رجل من الأنصار وحفظها والصبي معها ترضعه حولين كاملين، وهذا الرضاع الشرعي لمن أراد أن يتم الرضاعة.

بعد سنتين وتسعة أشهر من جريمة الزنا جاءت بالصبي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بعدما فطمته في أول وقت الفطام أي بعد مضي سنتين، ثم وضعت في يده كسرة خبز يمسكها حتى تقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه الآن مفطوم يأكل الخبز.

شيء عجيب! تمر قرابة ثلاث سنين، وتأتي وهي تعرف أن مصيرها سيحفر لها حفرة في الأرض وترمى بالحجارة حتى الموت.

إذا كان هذا شأن الذين وقعوا في المعاصي من الجيل الأول فكيف يكون شأن الطائعين المخلصين الذين لم يتورطوا في مثل هذه الأمور، إن مثل هذا لشيء عجاب، والله المستعان! المهم حتى حين تقع منهم هذه المعاصي فقد كان رجالهم رجالاً ونساؤهم نساء، كانت نساء حقيقيات صادقات مع الله تعالى ومع أنفسهن.

هذا النوع الأول من المعاصي والأخطاء التي توجد في المجتمع الصالح هي المنكرات الفردية، يعني فلان زنى، فلان سرق، فلان كذا، فلان تخلف عن الجهاد، فلان فر من المعركة أو ما أشبه ذلك، ثم يتوبون ويتوب الله عليهم، لا يعلم في حدود علمي أن واحداً من الجيل الأول مات مصراً على معصية.

قصة أبي محجن: ولعل من أقرب الأمثلة قصة أبي محجن الثقفي، وكان متورطاً في شرب الخمر ولا يستطيع أن يصبر عليها، بل جلد مرات عديدة، وسجن بدون جدوى، لكن من رحمة الله قبل أن يموت بزمن أنه كان مسجوناً في بيت سعد بن أبي وقاص في أيام القادسية في العراق، فلما رأى القتال بين المؤمنين والفرس تحمس وقال لـ سلمى زوجة سعد: فكي لي فرس سعد -وكانت مربوطة- وأطلقيني أقاتل، فإن قتلت فهذا خير لي، وإن نجوت فأعاهد الله أن آتي حتى تضعي القيد في رجلي، فرفضت، فبدأ يتغنى بأبيات من الشعر يقول: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثير وأخوةٍ فقد تركوني واحداً لا أخَا ليا ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا أي: حانات الخمر، فهو يحلف بالله إن نجا وفرج عنه من هذا الكرب ألا يزورها، أي أماكن الخمور ففكت قيوده وأعطته الفرس (البلقاء) فذهب يقاتل في المعركة ويفتك بالفرس فتكاً شديداً، وسعد بن أبي وقاص ينظر ويقول: والله إن الطعن طعن أبي محجن والفرس فرسي، وأبو محجن في القيد كيف هذا؟ رجل يشبه أبا محجن وهذه تشبه فرسي، فلما رجع قال لزوجته فقالت: نعم، والله هو أبو محجن وهي فرسك فقال له سعد: اذهب لا سجنتك بعد اليوم، فقال: وأنا لا شربت الخمر بعد اليوم.

فلا أعلم أحداً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام مات مصراً على معصية من المعاصي الظاهرة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015