أول وسيلة في ذلك هي الفكر: فقد منح الله تعالى كل فرد منا عقلاً يفكر به، وجعل هذا العقل هو مناط التكليف، بحيث أن الإنسان المسلوب العقل غير مكلف بالأحكام الشرعية، ولا محاسب عليها، فالعقل هو مناط التكليف، وهذا العقل الذي منح الله الإنسان إياه من أقوى الوسائل الموصلة إلى تحقيق الإيمان، إذا استعمله الإنسان في هذا السبيل.
فالإنسان حين يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، يصل إلى الإيمان بالله تعالى ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه في قصة مبيته عند خالته ميمونة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استيقظ من النوم خرج ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]-وفي صحيح مسلم- أنه قرأها ثلاث مرات كل ذلك يقرؤها ثم يصلي ما شاء الله له ثم ينام، ثم يقوم فيقرؤها ثم يصلي ما شاء الله له ثم ينام، ثم يقوم ثم يقرؤها، ثم يصلي ما شاء الله له، ثم ينام} فقراءته لها ثلاث مرات، وهو ينظر في السماء صلى الله عليه وسلم إشعار بأهمية التفكر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك أيضاً روى بعض الأئمة كـ عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر، وابن أبي الدنيا، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم عن عطاء أنه قال: {قلت لـ عائشة: أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعجب إليه؟ قالت رضي الله عنها: وأي أمره لم يكن عجباً صلى الله عليه وسلم، إنني رأيته وقد جاء إلى فراشي فنام قليلاً ثم استيقظ وبكى، وقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، ثم قام عليه الصلاة والسلام، فقرأ هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها} رواه ابن حبان في صحيحه كما سمعتم، ولم أتمكن من معرفة درجة هذا الحديث لما عرف عن ابن حبان رحمه الله من التساهل في إيراد الأحاديث في صحيحه، وعلى كل حال يشهد له الحديث السابق.
ومن عجيب أمر الناس، أن الناس يرون هذه الآيات العظام تمر بهم صباح مساء، ولا يلتفتون إليها! فهم ينظرون إلى هذه الأرض وعظمتها وما فيها، وإلى السماء، والشمس، والكواكب، وخلق الإنسان، وإلى غير ذلك من بديع صنع الله في البر والبحر، فلا يلفت ذلك أنظارهم! نظراً لأنهم ألفوه واعتادوه، لكنهم حين يرون أمراً بسيطاً مخالفاً لما ألفوه تجد أنهم يلتفتون إليه وقد مُلئت قلوبهم بالعجب.
قد يرى الناس هذه الأشجار المخضرة في كل مكان، فيمرون عليها وهم عنها معرضون! فإذا رأوا شجرة في الخريف قد اخضرت وأورقت، تجمعوا حولها، وهم يقولون: سبحان الله! انظر إلى قدرة الله، فلم يروا قدرة الله التي جعلت هذه الشجرة تورق في الخريف أنها هي التي جعلت هذه الأشجار الضخمة تورق وتخضر في أوقات أخرى في كل مكان؟ فلماذا نغفل عن بديع صنع الله، وبديع آثار هذه القدرة في أنفسنا وفيما حولنا؟! وليس التفكر مقصوراً في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، بل إن الإنسان حين يتفكر في أي أمر من الأمور، يكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيح للوصول إلى النتيجة الصحيحة، أرأيتم لو تفكر الإنسان المنحرف في واقعه، وما هو مقبل عليه، ألا يكون هذا الوقت القصير الذي بذله في التفكر أثمن، وأكثر ثمرة، من عشرات الكتب التي قرأها، وعشرات المحاضرات التي سمعها؟! ولو استطعت أن تقنع شخصاً منحرفاً بأن يفرغ خمس دقائق ليراجع نفسه، ويتفكر في حقيقة ما هو فيه، ويعيد الحساب، لكانت ثمرة هذه الدقائق الخمس أثمن من عشرات الكتب والمحاضرات والمواعظ التي سمعها، لكن كيف لك أن تقنعه أن يفكر ولو لمدة خمس دقائق؟ هو لا يفكر، لأنه كما قال الله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] قد أقفل قلبه دون التفكر في هذه الأشياء ورضي بما هو فيه.
وكذلك يكون التفكر في آيات الله الشرعية، كالقرآن الكريم، بحيث يكون ذلك موصلاً إلى قوة إيمان العبد وفهمه عن الله عز وجل، وأمره ونهيه، وحلاله وحرامه.
فالتفكر من أقوى الوسائل في تقوية الإيمان.