ولذلك أقول: إن الأمة اليوم ما زالت تعتبر النقد نوعاً من الاستفزاز، أو حط المكانة، أو مخالفة المألوف، لم يتعود الناس على هذا، لم تتعود آذانهم عليه، ولهذا صاروا يشمئزون منه، يستغربونه، يعتبرونه شيئاً عظيماً.
يا أخي! كل الدنيا هكذا، هل كتب على المسلمين فقط أن يظلوا في مثل هذه الأمور، ليس لديهم قدرة على تصحيح أخطائهم، ولا على اكتشافها؟! هل كتب علينا أن نظل نواجه هذه الأخطاء، وهي تتراكم وتزداد يوماً بعد يوم؟! ونحن إن نصحنا رأينا أن هذا فيه ما فيه، وتجد أن الواحد منا لا يفعل شيئاً، لكنه لو سمع إنساناً ينصح لقال: يا أخي، لماذا لم تفعل كذا؟ لماذا لم تأت النصيحة بالطريقة الفلانية؟ يا أخي! افعل أنت ما تقتنع أنه صحيح؛ لأن المسئولية مسئولية الجميع، وليست مسئولية فرد معين أو فئة معينة، وكأن الكثيرين ظنوا أن الدين لم يأت بهذه الأمور، أو أنهم غير مكلفين، أو غير محاسبين على مثل هذه الأشياء، وكأنهم نسوا أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يستدرك على بعض، وبعضهم يصحح لبعض، علانيةً إذا كان الأمر يقتضي الإعلان، وسراً إذا كان الأمر يقتضي الإسرار.
لاشك أن النقد يحتاج أحياناً إلى سرية فإذا كان الإنسان مستتر بذنب فلا تفضحه على الملأ، بل بينك وبينه، لكن إذا كان الخطأ معلناً على رءوس الأشهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء بإنسان ميت، فأثنى الناس عليه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت، وسمعه الصحابة فقالوا: وما وجبت؟ فقال: وجبت له النار، أنتم شهود الله في أرضه} لم يمنعه عليه الصلاة والسلام، ما دام أن الأمر مشهور تداوله الناس وتناقلوه فيما بينهم، والمجتمع كله يتحدث عن هذه الأخطاء، فلا تقل: لا تتكلم فيها ولا تشهرها ولا تنشرها.
هي معروفة أصلاً وكل الناس يعرفونها.
خذ -مثلاً- أجهزة الإعلام التلفاز، قلما بيت إلا وفيه تلفاز، يقف أمام هذا الجهاز الكبير والصغير، والرجل والمرأة على حد سواء، ابتليت به كثير من البيوت مع الأسف الشديد، حتى إنك قد تدخل بيوت أناس صالحين، بل ربما يكون ممن يشار إليهم بالبنان، وفيها هذا البلاء، ومع ذلك لو أن إنساناً قام في خطبة أو مناسبة أو في محاضرة، وتكلم عن برنامج يذاع في التلفاز وانتقده، لقال بعض الحضور: يا أخي، ليس من الضرورة نشر هذا الكلام، ليس فيه مصلحة، يا سبحان الله! أين نحن؟! في أي عالم نعيش؟!! أليس هذا البرنامج الذي ينتقده فلان عُرض على ملايين المشاهدين، أقول: ملايين في حين أن الذين سمعوا هذه الخطبة ألوف أو مئات أحياناً، فلماذا نعتبر أن هذا الخطأ الذي شاهده ملايين، أو سمعه ملايين أو علم به ملايين، نعتبر أن الحديث عنه مع عشرات أو مئات أو ألوف، أنه نوع من التشهير؟! أو أنه غير مناسب؟! السبب في ذلك أن الأمة لم تتعود على النقد الصحيح، ولذلك صارت تعتبر أن النقد -كما قلت سابقاً- نوع من الاستفزاز، أو من التشهير، أو من إثارة الفتنة في بعض الأحيان وهذه كلها مفاهيم خاطئة.
وقبل قليل ذكرت لك أن الصحابة يصحح بعضهم لبعض علانية، دون حساسية ولا حرج، ومن بعدهم كلهم كانوا كذلك، وإذا كان الخطأ ظاهراً مشهوراً، فلا معنى لإنكاره سراً، فإن الناس يقولون: أين العلماء؟! أين الدعاة؟! أين الخطباء؟! أين المصلحون؟! والأخطاء تقع صباح مساء، وهم ساكتون عنها لا يحركون ساكناً، وما يدري الناس أنك قلت لفلان أو علان، أو كتبت أو رفعت سماعة الهاتف، وخاصةً إذا تكررت هذه الأمور، ولم تزل تفعل الطريقة التي تعجبك، لكن إذا ظل الأمر موجوداً، على أقل تقدير حتى يعذرك الناس، ويعرفوا أنك بذلت ما تستطيع، وأعذرت إلى الله، وحتى تحذر الناس من هذا الأمر وتبين لهم خطورته وعواقبه.