غياب النقد عند أناس ووجوده عند غيرهم

وإذا غاب هذا المعنى عن الحاكم في بعض الظروف وفي بعض الأحوال، وهيمنت النظم الاستبدادية والنظم الدكتاتورية المتسلطة، التي تكتم أنفاس المسلمين، وتمنعهم من أن يقولوا كلمة الحق، وتحول بينهم وبين النطق بها، وتمنعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تمنعهم من النصيحة، أو تمنعهم من النقد الهادف البناء، لأنها لا تريد نبش التاريخ، ولا كشف الحقائق، ولا مصارحة الشعوب بالأمور وأبعادها وخلفياتها ومجرياتها، إذا غاب هذا عن الحكام في حقبة من حقب التاريخ، أو في رقعة من الواقع الموجود اليوم، فإن هذا لم يكن ليغيب عن العلماء والدعاة، بل كان العلماء والدعاة ينصحون بعضهم بعضاً، وينصحون عامة المسلمين، بل وينصحون حكام المسلمين، وإن لقوا في ذلك ما لقوا.

ولو ذهبت أذكر لكم مواقف من نصيحة العلماء بعضهم لبعض، أو للمسلمين من العامة، أو للحكام سراً وعلانية، سواءً من خلال المخاطبة، أو الخطبة، أو الكتاب؛ لطال بي المقام، وأحيلكم على كتاب واحد فقط، وهو كتاب: الإسلام بين العلماء والحكام للشيخ عبد العزيز البدري، ففيه من ذلك شيء كثير.

أما اليوم فنقول -وبكل أسف-: إن عيوب الأمة الإسلامية اليوم، ليست محصورة في طبقة معينة، لا نخدع أنفسنا، ليس العيب اليوم في الحاكم، وليس العيب في العالِم، أو في الداعية، لا.

العيب اليوم موجود في الجميع بدون استثناء، من القمة إلى الهرم عند الجميع، فداء التسلط والدكتاتورية -كما أسلفت- وكتم الأنفاس وسلب الحريات، ليس موجوداً في الحاكم فقط، وهو موجود في الحاكم، ولكنه أيضاً، موجود عند كثير من العلماء والدعاة والمجتهدين، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فتجد أن المعلم - مثلاً - يستثقل أن يصحح الطالب له خطأً، وقد يضطرب إذا صحح الطالب له خطأً في مجلس من مجالس درسه.

وتجد الداعية يستغرب ويستثقل أن يصحح أحد الأتباع عليه شيئاً وقع فيه، ولا يعطيه من الحرية إلا هامشاً صغيراً جداً، هو نفسه الهامش الذي تعطيه الحكومات لبعض الشعوب.

فمثلاً قد يُسمح في بعض البلاد للإنسان بأن ينتقد عمل البلدية، فيقول: الشارع الفلاني مائل والشارع الفلاني معتدل والشارع الفلاني نظيف والشارع الفلاني غير نظيف - مثلاً - والبيت الفلاني يحتاج إلى هدم، والبيت الفلاني لا يحتاج، والمكان الفلاني وقع في خطأ، وما أشبه ذلك- من الهامش الصغير الذي قد يرضي بعض السذج والبسطاء والمغفلين.

وكذلك قد يعطي الداعية أو العالم أحياناً، من حوله هامشاً صغيراً من الحرية يخدعهم به عن ضرورة النقد البناء العميق الصحيح، وضرورة المراجعة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015