الأمر الأول: أن الدين جاء مقراً بالفطرة معترفاً بوجودها، وإقرار الدين بالفطرة هو أمرٌ طبعي، ولكن يؤكد لنا ما عرفه الناس وعلموه من واقع الحياة.
فمثلاً:- حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان، جاء في القرآن ما يدل على ذلك، يقول الله عز وجل عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:196] تأمل قوله تعالى: (أَحْرَصَ) واحرص كما يقول علماء اللغة أفعل تفضيل، أي: أشد الناس حرصاً فكأن معنى الآية أن الله عز وجل يقول: إن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة معنى ذلك: أن الناس كلهم حريصون على الحياة، لكن اليهود هم أشد الناس حرصاً.
فمن هذه الآية عرفنا أن الإسلام يبين أن غريزة حب البقاء فعلاً غريزة فطر الإنسان عليها.
مثلاً:- غريزة حب الزوجة، حب المال، وحب الولد جاء الدين مقراً لذلك، قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] .
وهذا السياق لا يدل على مدح ولا ذم؛ إنما إشارة إلى أن هذه الأشياء عبارة عن فطرة فُطر عليها الإنسان، وغريزة رُكِّبت فيه، ويأتي بعد ذلك ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة؟ ومتى تكون مذمومة؟ المهم أن هذه الأشياء أمور من حيث الأصل لا يلام عليها الإنسان.
انظر أيضاً إلى قوله الله عزوجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29-30] ثم عقب على هذا السياق بقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] ليتأمل الإنسان قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] يجد أشياء عجيبة فعلاً! فإنهم غير ملومين لا يلامون على هذا الأمر، فالقضية من حيث الأصل ليست قضية يحمد أو يذم عليها؛ إنما الإنسان لا يلام فيها.
قد يكون في قضية الزواج والنكاح أمور قد يستقذرها الإنسان لو تأمل فيها بطبيعته، خاصةً الإنسان الذي فيه سمو وترقّ، وكمال وحياء، قد يستقذر قضايا من قضايا النكاح والزواج، ولذلك جاء النص القرآني: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] أي: أن هذه قضية خارجة عن إرادة الإنسان، فالله عز وجل ركبها في الإنسان.
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم كغيرهم في هذا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] فالقضية قضية فطرة.
ومن الطريف ما رواه أهل السير ورواه أيضاً النسائي في سننه -وهو في سنن ابن ماجة -عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكان زوجها مصعب بن عمير رضي الله عنه: {فقُتل مصعب في أحد شهيداً في سبيل الله وقتل أخوها عبد الله بن جحش شهيداً أيضاً، فقيل لـ حمنة: قُتل أخوك، عبد الله بن جحش، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل لها: قُتل زوجك مصعب بن عمير، فبكت وولولت وقالت: واحزناه!، هذا الموقف يدل فعلاً على مكانة الزوج عند زوجته، والعكس بالعكس، وأن القضية في الأصل قضية فطرية، وعقب الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تقول هذه الرواية بقوله: {إن للرجل لشعبة لدى المرأة ليست لأحد} مكانة الرجل عند المرأة في أصل الفطرة ليست لأحدٍ غيره.
وهكذا تجد أن الدين جاء مقراً بهذه الفطرة، معترفاً بوجودها، لا ينكرها، وهذا أمر طبعي -كما ذكرت- لأنه يستحيل أن يأتي الدين مخبراً بخلاف الواقع فما دام الإنسان مفطوراً على أشياء معينة؛ فلا بد أن يكون الدين -حين يأتي- مقراً بهذه الأشياء، معترفاً بها هذا الأمر الأول، في موقف الإسلام من الفطرة.