توجيه الدين للفطرة

وإذا كان الإنسان يحب الزوجة في هذه الدنيا، والزوجة تحب زوجها في هذه الدنيا، فإن المحبة بينهما مع ذلك يكدرها وينغصها أشياء كثيرة: من اختلاف الطبيعة بين البشر، من كون الإنسان يرى في زوجته ما لا يرضى، أو الزوجة ترى في زوجها ما لا ترضى، إلى منغصاتٍ أخرى كثيرة.

وإنما اللقاء الذي فيه كمال السرور والتنعم واللذة هو في الجنة، ولذلك قال الله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:15] .

فكلُّ ما يرغبه الإنسان في هذه الدنيا يجده في الدار الآخرة، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يوجه هذه الأشياء التي فُطر عليها توجيهاً سليماً، وإذا كان -أيضاً- حب الإنسان للمال أمراً فطرياً، فإن الإسلام يوجه الإنسان إلى النفقة في سبيل الله، والاستعلاء على هذا الحب للمال، بحيث أن يكون حب الله ورسوله والجهاد في سبيله أعظم في نفسه من حب المال؛ ولذلك تنفق هذا المال في سبيل الله عز وجل وفي الحديث الصحيح: {لما أنزل الله قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن أحب ماله إليه -بيرحاء- وهي بئرٌ ومزارع في، المدينة فقال: إنها أحب مالي إلي، وإني أشهدك أنها صدقةٌ لله ولرسوله، فيستعلي الإنسان على ما يحب، فإذا أحب شيئاً، أنفقه في سبيل الله عز وجل، وأدرك أن هذا المال، إذا أراد أن يكون مالاً رايحاً أو رابحاً} كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث السابق؛ فليقدمه أمامه ليوم الحساب.

وإذا كان الإنسان يحب المتعة والبقاء في قرب زوجته وأولاده، ويكره الخروج للدعوة، أو الخروج للجهاد -مثلاً- فإنك تجد أن أحد المسلمين الأوائل، وهو النابغة، أراد أن يخرج في سبيل الله عز وجل، فأمسكت به زوجته وهي تبكي وتسائله: كيف تخرج وتتركني؟ فولى وهو يقول لها: يا بنت عمي! كتاب الله أخرجني كُرهًا وهل أمنعنّ الله ما فعلا؟ فإن رجعت فربُّ الكون يرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذُرني أو ضارعًا من ضنىً لم يستطع حولا أي: أنا رجلٌ قادر مستطيع، أسمع نداء الجهاد، فلا يمكن أن أترك الجهاد في سبيل الله عز وجل رغبةً في البقاء إلى جوار زوجة.

ومن الطريف في هذا المقام ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير عن فروة بن عمرو الجذامي، وهو ملك عرب الروم، وكان هذا الرجل قد أسلم ودان بدين الإسلام، فَعلِمَ به الروم، فأمسكوا به وحبسوه وأرادوه على الردة عن دين الإسلام، فأبى وأصّر على دينه، فصلبوه إلى خشبه، وفوقوا إليه السهام، وهم يهددونه إن لم يرتد عن الإسلام أن يقتلوه؛ وهذا موقف صعب ولكن أصر هذا الرجل على دينه، فأبى أن يخرج منه، وكان يتمثل بأبياتٍ من الشعر في هذا الموقف، أو قال أبياتاً من الشعر في هذا الموقف.

فتأمل وانظر! ما هي المشاعر التي جالت في نفسه، بطبيعة الحال أن هذا الرجل بشر، وإن كان مسلماً، فالإسلام يخاطب فطرة الإنسان -كما سبق- ولا يخرج الإنسان عن بشريته، بل يزكي هذه البشرية، ويقويها وينميها، فهذا الرجل يتذكر أولاً إخوانه المسلمين الموافقين له على الدين، فيقول: بلِّغ سراة المسلمين بأنني سلمٌ لربي أعظمي ومقامي ومعنى سراه: أي كبراء المسملين وهأنا الآن أموت مسلمًا لله، لحمي وعظمي، وعصبي ومخي قد خشع لله عز وجل هذا شعور عظيم عند رجل كهذا الرجل.

ثم يتذكر زوجته وحب الزوجة - كما سبق- هو فطرة، فيقول: ألا هل أتى سلمى بِأن حليلها على ماء عفرا، فوق إحدى الرواحل هل علمت بأن الرجل الذي أحلها الله له وهو حليلها قد صلب الآن على ماء في فلسطين يقال له: ماء عفراء، فوق إحدى الرواحل وقد شبهها بالخشبة التي صلب عليها بالناقة أو الراحلة.

على ناقةٍ لم يطرق الفحل أمها مشذبةٍ أطرافها بالمناجل إذاً: هذه الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان، من حب المال من حب الحياة من حب الملكية من حب الزوجة أو الزوج من حب الولد؛ جاء الإسلام معترفاً بها؛ موافقاً لها؛ مُنظماً لها؛ مزكياً لها.

وكان المسلمون الأولون الذين ربَّاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه من بعده، كانوا صورةً صحيحة لمن يسلك المسلك الصحيح، فتكون هذه الفطرة بشأنه موجهةً الوجهة الصحيحة، وليست عائقاً يحول دون الجهاد في سبيل الله، أو دون البذل، أو دون الإنفاق، أو غير ذلك من الأشياء التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015