إن الإسلام لم يكتفِ بالاعتراف بالفطرة فقط، ولا بالموافقة لها فحسب، ولا بتنظيمها؛ بل أضاف إلى ذلك كله، الأمر الرابع، وهو تزكية الدين للفطرة.
انظر إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] .
لقد اعترف الإسلام بأن الإنسان بطبعه قد يحب ولده، أو زوجه، أو ماله، أو مسكنه، أو وطنه أو غير ذلك.
لكن أن يصل ذلك إلى حد أن يفضل الإنسان هذه الأشياء على حب الله ورسوله، وجهاد في سبيله؛ فهو حينئذ إنسان فاسق يتوعده الله عزوجل بالوعيد الشديد: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ] التوبة:24] ولما ذكر الله تزيين الشهوات للإنسان: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ عقَّب بقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:14-15] .
إذاً: هذه الفطرة يجب أن توجه في الطريق الصحيح، ويجب أن تُزكّى بحيث تكون دافعاً إلى الخير، مصروفةً في سبيل الله، وألا تحول بين الإنسان وبين مرضاة الله عز وجل، وبين الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
انظر أيها المسلم إلى المسلمين الأوائل الذين صنعهم الإسلام! وكيف كان موقفهم وتعاملهم مع هذه الأشياء التي فطروا عليها!! فطروا على حُب الحياة كغيرهم من البشر! ولكنهم كانوا يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل الله عز وجل، وكان الواحد منهم يحمل روحه على راحته، ويُلقي بها في مهاوي الردى، مقاتلاً في سبيل الله عز وجل! يفرح بالموت في سبيل الله ويسعى إليه! كما يفرح أهل الدنيا وأهل الحياة بالبقاء والسلامة!! ولعلّ من أبلغ من يصور مواقفهم تلك: الشاعر والشعر عند العرب هو المترجم عن حقائق ما في نفوسهم؛ فهو ديوانهم، وسجل حياتهم يقول الطرماح بن حكيم، معبراً عن حبه أن يقتل في سبيل الله، وأن يلقى الموت شهيداً في ميدان المعارك، يقول: وإني لمقتادٌ جوادي فقاذف به وبنفسي العامَ إحدى المقاذف فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن على شَرْجعٍ يُعلى بخُضْرِ المَطارفِ ولكن أحن يومي سعيدًا بعصبةٍ يصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ يسأل الله أن يكون موته موت شهادة على عصابة من المؤمنين يصابون ويقتلون في فج من فجاج الأرض: عصائب من شيبان ألَّف بينهم تُقى الله، نزَّالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهُمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف يفارقون الدنيا فيفارقون ما فيها من الأذى والحياة لا بد فيها من الأذى، فيفارقون هذا الأذى ويصيرون إلى موعود ما في القرآن الكريم.
فأُقتل قعصًا ثم يُرمى بأعظمي كضغث الخلا بين الرياح العواصفِويصبح قبري بطن نسرٍ مقيله بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ أي إن الموت في سبيل الله مع هذه العصابة من فوارس بني شيبان الشجعان المغاوير، ممن تحابوا في ذات الله وألَّف بينهم تقى الله هو أقصى ما يتمناه؛ إذ هذه الميتة تعني مفارقة هذه الدنيا المليئة بالأذى والكدر، وتعني الوصول إلى جنات الله التي وعدها المتقين والشهداء، ولا يضير الشهيد أن يُقتل قتلاً سريعًا، ثم تُرمى عظامه في الصحراء لتتنازعها تلك النسور العواكف العوائف.
وهذا الوعد الموعود هو: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:15] .
فإذا كان الإنسان يحب البقاء، فلا بد له في الدنيا من الموت، وإنما البقاء الأبدي الذي لا يكدره خوف الموت، ولا يكدره حلول الأجل؛ هو البقاء في الجنة.