اليأس مما فات

السابع: اليأس مما فات الإنسان: فإن اليأس قوة وصبر لقلب الإنسان، وربما تمنى الإنسان شيئاً فطال شوقه وتلهفه إليه، زوجة -مثلاً- أو ولداً أو مالاً أو جاهاً أو وظيفة، فإذا يئس منه رزقه الله تعالى الغنى عنه وقوى قلبه، وأعزه بالغنى، ولذلك يروى أن رجلاً كان يحب ولده ويشتاق إليه في غيبته، فلما مات رُزِقَ صبراً، فكان يقول: عجبت لصبري بعده وهو ميت وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب ومن ذلك الاستعانة بالله تعالى، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا كان المؤمن دائماً وأبداً يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فلا بد من أن يستعين بالله تعالى على تحمل المصائب الدينية والدنيوية، فالاستعانة بالله تعالى تهون على العبد المصيبة فلا يجد وقعها ولا يتبرم منها، بل ربما تحولت إلى نعمة وربما سر بها، واعتاد عليها وألفها، كما يألف الإنسان البلد الغريب إذا أقام فيه واختلط بأهله، وكما يألف السجن إذا طال مكثه فيه، وكما يألف الفقر فلا يحب الغنى، والمهم هو أن تحصل السعادة للإنسان في الحالين في قلبه، ومن ذلك أيضاً أن في الجزع شماتة العدو وحزن الصديق، وفي الصبر إبرار الصديق وغيض العدو فإن تسأليني كيف أنت فإنني صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب ومن ذلك تذكر الموت فإنه نهاية الحياة، وهو قمة الابتلاء، وآخر ما يلقاه الإنسان في هذه الدنيا، لا حزن ولا كرب على الإنسان بعد ذلك من المؤمنين بإذن الحي القيوم، قال عليه الصلاة والسلام: {ليس على أبيك كرب بعد اليوم} والموت حتم على الجميع، وأحسن الموت، الموت في سبيل الله تعالى، فإنه حياة {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169] .

عجباً لمن يلقى الحروب فلا يقاتل أو يجالد لا سيما إن كان يوقن أنه إن مات عائد خوفاً وإشفاقاً وإرصاد الحتوف له رواصد إن قال إن النفس واحدة فإن الموت واحد ومن ذلك التأمل فيمن أصيبوا بأعظم مما أصاب الإنسان، فإنه من أردأ المشاعر في النفس التطلع إلى ما عند الآخرين، والنظر إلى من فوقه، ومن أحسن المشاعر أن ينظر إلى من دونه، فمن مرض مرضاً يسيراً ينظر للمرض الخطير، ومن مرضه خطير ينظر للموت، ومن أصيب بقريب أو حبيب ينظر إلى من أبقى الله تعالى له من الأحياء والأحبة، ومن أصيب بدنياه ينظر إلى من أصيب بدينه، فله الضلال والعار والنار، ومن نقص ماله أو ثمرته، يقارن ذلك بمن ركبته الديون العظام.

ومن ذلك أن يعلم أن المصيبة اختبار واختيار من الله سبحانه وتعالى، فإنما يبتلى الأقوياء، والمجاهدون، والدعاة، والصادقون، والمغامرون، أما الذين يسايرون الأوضاع فقد لا يتعرضون لشيء، لكن حياتهم تختصر وتختزل في رفاهية العيش، وكثرة المال، ورفعة المنصب، ولحظة جنس، أو لحظة طعام أو شراب، وهي أيام قلائل وليال ثم ينتهي، ولذلك قال بعض المغامرين الدنيويين، قال: تَغَرّب، أي ابحث عن بلد آخر، ليس شرطاً أن تجلس في بلدك وتحيا وتموت فيها، ابحث عن العز والقوة ولو كانت في بلد غريب:- إني رأيت ركود الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب تغرب فما الدار الحبيبة دار وفك المطايا فالمناخ أسار ولا تسأل الأقدار عما تجره مخافة هلك فالسلامة عار إذا لم يسعك الأمن في عقر دارها فخاطر بها إن العلاء خطار مقامي مع الزوراء وهي حبيبة مع الظلم غبن للعلا وخسار وكم حلة محفوفة ولها الهوى وأخرى لها البغضاء وهي تزار إذا حملت أرض التراب مذلةً فليس عليها للكرام قرار ولا عيب إن أهزلت وحدي وأسمنوا إذا أنا أنجدت العلا وأغاروا ولست أرى الأجسام وهي نواحل تضاءل إلا والنفوس كبار ومن ذلك أيضاً أن يعرف الإنسان ما وراء الصبر من الشرف في الدنيا، والعزة، والرفعة، والمقام، والمنزلة، وأنها لحظات وتنتهي، وما وراء الصبر من الجنة والثواب في الدار الآخرة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولهذا كان من منهج السلف سلوك مسلك الترغيب والترهيب، حتى يعرف الإنسان ما له من الصبر على الطاعة فيصبر عليها، وماله من الصبر على المعصية فيكف عنها، وماله من الصبر على ما قضى الله تعالى وقدر.

قال العبد الصالح لموسى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015