ثم هناك فضائل أخرى تتعلق بآخر الزمان منها: قوله عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن أنس، وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه -أيضاً- أحمد عن عمار بن ياسر، وجاء عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمتي كالغيث، أو مثل أمتي كمثل المطر لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره} إن هذا لا يعني أن آخر الأمة كأولها في الفضيلة سواء بسواء، فأول هذه الأمة أفضل -بلا شك- ولكنه إشارة إلى فضيلة آخر هذه الأمة، وأنها -أحياناً- تشبه أولها في الفضل فأول هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وآخر هذه الأمة المهدي عليه السلام، وعيسى بن مريم، وأولئك الرجال الأفاضل الأشاوس الذين يقتلون الدجال، وأولئك الأبطال الذين يفتحون بيت المقدس، وأولئك الفرسان الذين يقتحمون القسطنطينية، فمن رآهم ورأى فضائلهم، وإشادة النبي صلى الله عليه وسلم بهم تذكر قوله: {أمتي كالغيث لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره} فهو كقول الإنسان: هذا الثوب أفضله أعلاه أم أسفله مع أنه يدري أن أعلاه أفضل؛ لكنه يقصد الإشارة إلى أن أسفل هذا الثوب -أيضاً- نظيفٌ وجميل وحسن.
ومن ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي يودُ أحدهم لو رآني بأهله وماله} ، فهؤلاء الناس الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ود الواحد منهم أن يكون رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لو اقتضى ذلك أن يتخلى عن أهله وماله؛ لشدة محبتهم له، فهؤلاء: من أشد أمته حباً له، ومن أفضل أمته عليه الصلاة والسلام، فلو قارنت هؤلاء بأقوام عاشوا معه صلى الله عليه وسلم فما نشطوا بصحبته، وما ذهبوا إليه، وربما أسلموا وبقوا في قبائلهم، وبقوا في ديارهم، وربما جلسوا معه ثم غادروه بعد ذلك فلم يقتبسوا منه علماً، ولم يرووا من حديثه، ولم يهاجروا معه، ولم يجاهدوا معه، ولم يحجوا معه، ولم يشهدوا معه المشاهد؛ لأدركت أن في آخر هذه الأمة فضلاً كثيراً، كما هو في أولها.
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: {السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك؟! قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غرٌ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم ألا يعرف خيله؟! قالوا: بلى، قال: فكذلك هم، يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، قال: وأنا فرطهم على الحوض وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأقول: ألا هلم ألا هلم، أناديهم، فيقال: إنهم قد غيروا -أو قد بدلوا- بعدك، فأقول: سحقاً سحقا} فهذا دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رأى من لم يأتِ من أمته من الأخيار والصالحين، وأهل الوضوء، وأهل الصلوات، وأهل الذكر، وأهل الأوراد، وأهل التسبيح، وأهل الجهاد، وأهل الصبر، وأهل الصدقة، حسبهم شرفاً وفخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رآهم: {وددت أنّا رأينا إخواننا} وحسبهم شرفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وسمهم بوسم الأخوة، فهم إخوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخوة أصحابه في الإسلام والتوحيد والاتباع، الذي جمعهم عليه جميعاً.
وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وقال: {للصابر منهم أجر خمسين، قالوا: أمنا يا رسول الله، أم منهم؟ قال: بل منكم} فذكر أن الإنسان من آخر هذه الأمة إذا عمل عملاً أُجِرَ عليه أجر خمسين من الصحابة لو عملوا العمل ذاته فإذا تصدق بصدقه ضوعفت له خمسين ضعفاً عما يكتب للصحابي -مثلاً- لو تصدق بالصدقة ذاتها، وإن كان الصحابة يتميزون بفضل الصحبة، وأنهم قد اقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبوا أنفاسه، ورأوا وجهه الشريف الطاهر المنور، وسمعوا الوحي من فمه، وجاهدوا معه وصبروا، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] .
فلهم جميعاً فضل الصحبة، ولكن من جاء بعدهم فإنه يضاعف له الأجر، وإن قلت أعماله بالقياس إلى أعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن ذلك حديث أبي عنبة الخولاني وهو ممن صلى إلى القبلتين، وشرب الدم في الجاهلية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يزال الله تعالى يغرس في الدين غرساً يستعملهم في طاعته} وهذا الحديث رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه، وقال الإمام البوصيري في زوائد ابن ماجة: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات فهذا الحديث دليل على أن الله تعالى يغرس للدين والتوحيد والدعوة غرساً في كل زمان يستعملهم في طاعته، ويوفقهم في مرضاته، ويجعل همهم وديدنهم وسرورهم وقرة عيونهم في الجهاد في سبيل الله، والصبر على ما يلقون في ذات الله تعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
الخاتمة: وأخيراً: فإن الأحاديث الواردة في الفتن فيها افتتاح القسطنطينية، وفيها قتال الدجال، وفيها قبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، وفيها فتح بيت المقدس، وفيها قتال اليهود، وفيها قتال الروم، وفيها فتح روما، وكل هذه لن تتم إلا على أيدي الرجال الكبار الكرام الأشاوس الأبطال المخلصين، بل إنني أقول: إن الذين يقاتلون إلى جانب المهدي ويقاتلون إلى جانب المسيح بن مريم لم يكونوا إلا رجالاً أقوياء أشداء، ولم تكن إلا أمة تقوم بقادتها، وتقوم برجالها، وتقوم بأبطالها ولو أن قائداً عظيماً محنكاً وجد في أمة ذليلة مهزومة مقهورة محطمة؛ لم يستطع أن يقوم بشيء ولا يصنع شيئاً قال الشاعر: ولو أن قويماً أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت فكيف ترى في هذه الأمة؛ التي هذا أولها وهذا آخرها إنها ولا شك أمة خير.