وأول وأعظم وسيلة لتزكية النفس، وإبعاد هذه الشرور عنها, هي: أن يكون الإنسان حريصاً على إضمار النية الصالحة.
فالنية كما يقول بعض العلماء مثل الإكسير, والإكسير هو: مادة عند بعض الطبيعيين، يزعمون ويدعون أنهم إذا وضعوا هذه المادة على مادة أخرى، فإنها تحولها إلى ذهب, فلو وضعوها على حجر أو غيره, فإنها تحول هذا الحجر إلى ذهب.
أقول: إن النية هي في الحقيقة هذا الإكسير، الذي يوضع على الأشياء العادية، فيحولها إلى عبادات يؤجر عليها الإنسان, ويؤخذ من العبادات والأعمال الصالحة، فيحولها إلى أعمال مردودة يعاقب عليها الإنسان, عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل لثلاث} يتكلم صلى الله عليه وسلم عن الخيل، وربط الخيل، ومن تكون الخيل له أجراً، ومن تكون له وزراً، فيبين أن مدار ذلك كله على النية: {الخيل لثلاث: الخيل لرجل أجره, ولرجل ستره, وعلى رجل وزره} فهي نوع من الدواب، بالنسبة لهذا وبالنسبة لهذا, الخيل هي الخيل لا تختلف، لكن هذا يربطها فيؤجر، وهذا يربطها فيأثم, ويربطها الثالث فلا يؤجر ولا يأثم.
{فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، ربطها من أجل الجهاد في سبيل الله -فأطال لها في مرج أو روضة- أي: أطال حبلها في مرج أو روضة, فلو أنها قطعت طيلها -أي: قطعت هذا الحبل الذي ربطت فيه- فاستنت شرفاً أو شرفين -أي: قطعت هذا الحبل، فعادت وتجاوزت شرفاً أو شرفين من الأرض -ثم جاءت إلى نهر فشربت منه، كانت خطواتها له حسنات، وكانت أرواثها وأبوالها له حسنات، وكان ما شربت من هذا الماء له حسنات} هو لم يرد أن تشرب, ولم يرد أن تنطلق من هذا الحبل, ولكنها فعلت ذلك بغير إرادته، ومع ذلك فكل ما ترتب على هذا الفعل وهو ربط الخيل في سبيل الله، عده الرسول صلى الله عليه وسلم عملاً يؤجر عليه صاحبه، كما ذكر في هذا الحديث.
حتى الأعمال التي لم يردها، ويمكن أن نقيس على ذلك فنقول: إن الإنسان لو خرج للصلاة، خرج من بيته لا ينهزه ولا يدفعه إلى الخروج إلا الصلاة, هنا كانت نيته صالحة وفي سبيل الله عز وجل, فلو كتب الله على يده في مسعاه هذا عملاً لم يرده, فإن من رحمة الله عز وجل أن يثيبه الله على هذا العمل، فلو خرج إنسان يريد شراً، إما سرقة أو إساءة أو معاكسة لامرأة أو غير ذلك, فرأى هذا الإنسان فأقلع عن عمله, فإننا نطمع أن يكون الله عز وجل يثيب هذا الإنسان، حتى في هذه الأعمال التي لم يقصدها, بل ربما لم يدر ولم يشعر بها, لأن أصل العمل ومنطلقه كانت نية الخروج إلى الصلاة، فأصل النية صالحة.
هذا هو النوع الأول الذي ربط الخيل في سبيل الله عز وجل.
والنوع الثاني هو: الذي ربطها مناوأة لأهل الإسلام, ومحادة لله ورسوله فهذا الفرس عليه وزره.
وأما الثالث -الذي ليس له أجر ولا وزر- فرجل ربطها تغنياً وتعففاً، إما للتجارة وإما لغير ذلك من الأغراض العادية، التي لا تدخل في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله, ولا تدخل في مناوأة الإسلام وحرب أهل الدين, فهذا ليست الخيل له أجر ولا وزر، وإنما هي له ستره.
فأنتم ترون أن العمل الواحد يثاب عليه شخص ويعاقب عليه آخر، ويكون بالنسبة للثالث لا خير ولا شر، لا ثواب ولا عقاب, وأعمال العبادات والشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها, يجري فيها هذا الأمر أو قريباً منه, فقد توعد الله تعالى المصلين في كتابه الكريم، والصلاة عبادة في أصلها، فلماذا توعدهم؟ توعدهم لأنه وصفهم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:5-7] هذا المصلي، الذي قام بهذه العبادة من أجل الناس رياء وسمعة, يتمنى يوم القيامة أنه لم يصل, لأن الصلاة لم تزده من الله إلا بعداً ولم تزده في جهنم إلا سفلاً وتوغلاً.
ولذلك توعد الله تبارك وتعالى المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار, تحت الكفار، مع أن المنافقين كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصومون معه في الظاهر، بل كانوا يجاهدون, بل منهم من يقتل في المعركة, ويظهر للناس الذين حوله أنه قتل شهيداً في سبيل الله, وهو لا يزداد بهذه الأعمال من الله إلا بعداً, ولا يزداد في جهنم ودرجاتها إلا سفلاً وانحطاطاً والعياذ بالله، مع أن أصل العمل عبادة، لكن افتقد الشرط الأساس وهو النية، الذي هو (إكسير) يحول الأعمال العادية إلى عبادات يؤجر عليها صاحبها.
وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون هذا المعنى فقد بعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه إلى اليمن، معلماً وقاضياً، ثم بعث صلى الله عليه وسلم في إثره معاذ بن جبل , فلما جاء معاذ رضي الله عنه، سلّم على أبي موسى، فوجد رجلاً مربوطاً عنده, وقبل أن ينزل عن راحلته قال: ما هذا؟ قال: هذا يهودي راجع دينه القديم, أسلم ثم ارتد إلى اليهودية والعياذ بالله، قال معاذ: لا أنزل عن راحلتي حتى يقتل، حكم الله ورسوله قال أبو موسى: نعم انزل، قال: لا أنزل حتى يقتل كأن أبا موسى قال له: إننا سنقتله فانزل وإننا لم نأتِ به إلا لنقتله، قال: لا أنزل عن راحلتي حتى يقتل فقتلوه ثم نزل معاذ رضي الله عنه, فتحدث مع أبي موسى رضي الله عنه، ما تفعل في صلاتك؟ ما تفعل في بيتك؟ فذكر معاذ رضي الله عنه وأرضاه من عبادته وقيامه في الليل شيئاً، ثم قال: [[وإني لأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي]] وهذا الحديث فيالصحيح، أي: أنه يحتسب وهو نائم، من الأجر مثل ما يحتسب وهو يقظ يصلي, لأنه وهو نائم يشعر أنه في عبادة.
ومعاذ من كبار فقهاء الصحابة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {معاذ إمام العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة من الأرض، وهذا فقهه وعلمه رضي الله عنه, أنه يحتسب في نومته كما يحتسب في قومته من العبادة, وهذا جزء من معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] .
فالنوم أخو الموت, فالإنسان وهو نائم يتقلب في فراشه، ويؤجر إذا كان نومه بنية صالحة؛ نام ليتقوى على عبادة الله, نام وهو يذكر الله, ونام على جنبه الأيمن متطهراً مستقبل القبلة, كلما تعار من الليل قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير", ثم إن استيقظ قام وتوضأ وصلى ركعتين، وعاد إلى فراشه وهكذا يتقلب في نومه، والملك يكتب له حسنات, وفضل الله أوسع وأعظم.
هذه صورة من صور أثر النية في العمل، وكثير من الناس تجد عندهم صلاح النية والقصد، فتجد أنهم يبلغون بهذا العمل الطيب، الذي هو من أعمال القلب, يبلغون به ما لم يبلغ الآخرون المكثرون من العبادة والصيام والصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إذاً الأمر الأول والمهم في موضوع تزكية النفس وصلاحها، هو: إصلاح النية، وأن يكون الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع, لا ينظر إلا إلى هم واحد وإلى أمر واحد, وهو أن يكون هذا الأمر في مرضاة الله تبارك وتعالى.