طلب العلم النافع

الوسيلة الثانية هي: طلب العلم النافع.

وقد ظن كثير من الناس اليوم، بل ومنذ أزمنة طويلة، أن طلب العلم يعني معرفة الإنسان بالأحكام والفروع, وأن هذا مباح وهذا مستحب, وهذا مكروه وهذا محرم وما أشبه ذلك, أو أن الإنسان يقرأ القرآن أو يقرأ الحديث, وهذا ليس هو العلم فقط, هذا جزء من العلم, والعلم أوسع من هذا كله.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوما جالساً في أصحابه، كما في حديث أبي الدرداء، الذي رواه الترمذي وقال حسن غريب، ورواه الدارمي عن عدد من الصحابة، في رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم حتى لا يقدر منه على شيء.

وكان هناك رجل من الأنصار، اسمه زياد بن لبيب، فقال: كيف يا رسول الله وقد قرأنا القرآن وعلمنا السنة، فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم -بلهجة المستغرب بما سمع- قال له: "ثكلتك أمك يا زياد " -أي: فقدتك وهذه كلمة لا يراد بها حقيقة معناها, إنما تجرى على الألسنة- "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة" -أي: كيف تقول هذا الكلام، وأنت تحسب من الفقهاء؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ زياد: "هذه التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى، فما أغنت عنهم} أي: لم تغنِ عنهم شيئاً، وهي موجودة في أيديهم قال جبير أحد رواة الحديث: [[فانطلقت إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ قال ما يقول: فذكر له الحديث, فقال: صدق أبو الدرداء , لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الأرض -انظروا ما هو أول علم يرفع من الأرض؟ - إنه علم الخشوع]] .

فهل نحسب نحن هذا من العلم؟ لا نحسبه من العلم, إنما يحسبه الناس اليوم من العبادات, فيقال: فلان عابد إذا كان مصلياً خاشعاً قانتاً, والآخر عالم، إذا كان عالماً بالأحكام التفصيلية, ولو لم يكن عابداً, ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون العلم هذا, ولا كانت في القرآن والسنة هكذا مفاهيم العلم.

بل كان مفهوم العلم عندهم أنه العلم الموصل إلى الله, أن تعرف شيئاً يقربك إلى الله, وأن تعلم مسألة فتعمل بها؛ لتدخل الجنة وتنجو من النار, هذا هو العلم عندهم.

ولذلك الله تبارك وتعالى تعبدنا في كل ركعة من صلاتنا نفلاً أو فرضاً, أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ولكن هذه -أيضاً- من الأشياء التي كررناها, حتى صرنا نقولها دون أن نعي معناها, ما هو صراط الذين أنعم الله عليهم؟ إنه المخالف لصراط المغضوب عليهم، والمخالف لصراط الضالين.

الذي يتعلق بموضوعنا الآن، أن الله عز وجل حذرنا من طريقة اليهود, ومن كان على شاكلتهم, ممن يعلمون ولكنهم لا يعملون.

فمن كان من هذه الأمة المحمدية، عارفاً بالحق ثم لم يعمل به؛ ففيه شبه كبير من اليهود, وهم المغضوب عليهم, لا أقول: هم المغضوب عليهم، كل من ضل واتبع الهوى وهو يعلم؛ غضب الله عليه, ومن هؤلاء اليهود، والسلف حينما عرفوا المغضوب عليهم بأنهم اليهود، قصدوا المثال ولم يقصدوا حصر المغضوب عليهم في اليهود, وإنما بقصد التمثيل فقط: من أمثلة المغضوب عليهم اليهود, وكل من عرف الحق فأعرض عنه فهو مغضوب عليه, إلا من رحم الله وتاب وأقلع عن هذا الأمر.

وقد يقول قائل: نحن لا نعلم فأقول: نحن نعلم أشياء كثيرة، لم نستفد منها حق الاستفادة, نحن نعلم أننا سنموت ثم ننسى ذلك, ونعلم أن هناك بعثاً وحشراً، وجزاءً وحساباً، وجنةً وناراً وخلوداً, ومع ذلك ننسى كل هذه الأشياء، حينما يبرز لنا طمع من طمع الدنيا, أو حينما تتحرك في النفس شهوة من الشهوات, ونغفل عن هذه الأشياء كلها, وننشغل بما نحن بصدده, فهذا من العلم الذي يكون حجة على صاحبه.

فلنعلم أننا مطالبون بأن نعمل، وما شرف العلم إلا بشرف العمل الذي يقود ويدعو إليه هذا العلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015