درس للطغاة والمستكبرين

إذا كان في قصة لوط وقومه درس للفاسدين، والشواذ، والمنحرفين، ففي قصة فرعون وقومه درس للطغاة والمستكبرين، ففرعون كان يملك مصر، وبنى هذه الأهرامات الشامخة التي لا تزال قائمة إلى اليوم، وكان له جيوش جرارة، حتى إن بعض العلماء قالوا في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر:10] قالوا: إنه كان يملك الجيوش الجرارة الضخمة.

وأيضا فرعون كان له أجهزة أمنية متطورة، مباحث واستخبارات، وقوى عجيبة، ولهذا يقول فرعون يخاطب في بعض خطبه التي يلهب بها مشاعر الناس {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] (حاذرون) هذه الكلمة تحتها معاني، أي نحن يقظون ومنتبهون، ونعلم جيداً كل ما يجري، ولا يغيب عنا شيء، ولدينا أجهزة تأتينا بكل الأخبار، فنحن حذرون من موسى ومن معه، فما أغنى عنه هذا شيئاً (فَأَخَذْنَاهُ) لاحظوا الأخذ، بقوة (وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) -سبحان الله! - لاحظ كلمة (نبذناهم) أيضاً، مثلما الإنسان يأكل التمرة ثم ينبذ النواة أي يلقي بها، أو ينبذ الأشياء التي لا قيمة لها، هكذا الله سبحانه وتعالى أخذ فرعون ثم نبذه، ألقاه في اليم غير مأسوف عليه، (وهو مليم) آت بما يلام عليه ويعاقب عليه، فتصور حال هذا الطاغية، أمس يخطب في الجماهير ويرعد، ويزبد، ويرغي (َ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51-52] واليوم (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] قال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] فيقذفه البحر على الساحل جثة هامدة، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون! وفي الحديث الصحيح أن جبريل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في المسند وغيره {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من خبال البحر -يعني طين البحر الأسود المغرب- فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة} .

لما قال: آمنت، خاف جبريل أن تدركه الرحمة، لما يعلم من سعة رحمة الله تعالى، فكان يأخذ من طين البحر ويملأ بها فم فرعون، سبحان الله! {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] ذلك الإنسان الذي استكبر في الأرض، وطغى وتجبر، ماذا بقي الآن من فرعون، وهامان وقارون والنمرود وبختنصر وأبي جهل، وأبي لهب، والطغاة عبر العصور، ماذا بقي منهم؟ ما بقي منهم شيء إلا الذكر: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015