وقفة مع قصة إبراهيم عليه السلام

ذكر الله تعالى في هذا السياق قصص مجموعة من الأنبياء، أولهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعمق الروابط وأقواها، فهو أبونا عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، وكان مجدداً لشريعته ودينه، بل هو دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم {أنا دعوة أبي إبراهيم} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] إذاً السياق هنا يبرز جانب الضيوف، أول ما تحدث ما قال: هل أتاك نبأ إبراهيم، قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:24] إذاً الموضع هذا من القصة يعتني بإبراز جانب الضيوف، وماذا جرى لهم، وكانوا مجموعةً من الملائكة، جبريل ومعه مجموعة من الملائكة، جاءوه في صورة شباب، فيهم من الجمال الشيء العظيم، على ما هو ظاهر، فجاءوا إليه، ودخلوا عليه وسلموا، قالوا: سلاماً، قال: سلام قوم منكرون! وأبرز ما ذكر الله تعالى في صفة هؤلاء الضيوف أنهم مكرمون: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] لأن إبراهيم بالغ في تكريمهم والحفاوة بهم، ويظهر هذا من خلال عدة أمور: أولاً: دخلوا عليه فقالوا: سلاماً، قال: سلام، فهذا أول الكرامة، أنه رد عليهم التحية بأحسن منها، فإن الرفع أثبت من النصب، فكأنهم قالوا: نسلم سلاماً فقال هو: عليكم سلام، مبتدأ وخبر، والجملة الاسميه دائماً تدل على الثبات والاستقرار والاستمرار، فكان رده أبلغ وأحسن من سلامهم، قالوا: سلاماً، قال: سلام.

ب/ إحضاره العجل: ثم قال: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] وكلمة "راغ" معناها: ذهب إليهم خفية، إذاً هو تسلل إلى أهله، ولماذا لم يذهب علانية؟ هذا من التكريم لهم أيضاً، فإن الرجل المضياف يتسلل خفية عن الضيوف، ليقول لأهله: أعدوا الطعام، حيث طعام لا مَنَّ فيه، ولا أذى، ولا إعلان، أما الإنسان البخيل، أو الذي لا يحب أن يطعم ضيوفه، فماذا يصنع؟ إذا جاءه الضيوف وقف أمامهم وقال: هل تريدون شيئاً؟ تحبون أن أصنع لكم طعاماً، تشتهون شيئاً، وبدأ يعرض، لأنه يريد أن يقول الضيوف: لا نحتاج شيئاً بارك الله فيك، كأنما أكلنا وشربنا، لماذا؟! لأنه بخيل.

أما الكريم فإنه يروغ خفية وبسرعة إلى الأهل وتلطف، ليطلب إليهم صنع الطعام، حتى يأتي الطعام للضيوف قبل أن ينتظروه، وقبل أن يترقبوا، فهذا أيضاً من الكرامة للضيوف، أنه راغ إلى أهله.

{فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] والفاء هنا يقول أهل اللغة عنها: إنها من حروف العطف والترتيب والتعقيب يعني: أنه جاء بعجل سمين بسرعة، بخلاف "ثم" فإنها تدل على التراخي، أما الفاء فتقول: قام فقعد، تدل على أنه قعد بعد قيامه مباشرة، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وهذا أيضاً من الكرامة، فإنه عليه السلام استعجل أهله في صنع الطعام للضيوف، وسرعان ما قدم للضيوف عجلاً سميناً، وهنا أيضاً قال: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ما قدمه إليهم وقال: قوموا إلى الطعام! كما هي عادة الناس اليوم، بسبب تغير طبيعة الحياة ونمطها، أصبح الإنسان يُقدِّم الطعام في مكان، ثم يقول للضيوف: هلِّموا إليه، فيقومون من مكانهم إلى صالة الطعام، وهذا على كل حال من عادات الناس.

لكن نبي الله عليه الصلاة والسلام، قدم الطعام {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وفي الآية التي بعدها، قال: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] وأدناه منهم، بحيث لا يكون عليهم مشقة في القيام إليه، وهذا أيضاً من الكرامة.

ج) صفة العجل: وقوله: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:6] وجاء في الآية الأخرى {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] والعجل فيه: الصفتان، أما صفته الأصلية فهو أنه سمين، وهو ما كان يملكه عليه السلام، فأعطاهم أجود وأسمن ما يملك من الذبائح، ثم إنه صنعه بطريقة خاصة، طريقة الشي (شواه لهم) وهذا معنى قوله: {حَنِيذٍ} [هود:69] فهو سمين من حيث خلقته، وحنيذ من حيث صنعته {فقربه إليهم قال أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] وهذا أيضاً من الكرامة، فإن هذا أسلوب العرض في لغة العرب، ما قال: تقدموا كلوا، لا، قال: ألا تأكلون، ألا تتفضلون فتتناولون شيئاً من الطعام، ففيه أسلوب العرض المؤدب، البعيد عن مايفهم منه الأمر أو الطلب، وكل هذا من الكرامة، ففي ذلك دليل على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هو قدوة للمصلحين في الكرم والجود، وأنه ينبغي للإنسان الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، أن يكون كريماً جواداً، في عطائه، وفي ضيافته، بل وفي علمه أيضاً، فيبذله للناس، وفي دعوته، وفي طِيْبِ قوله، وفي كل شيء، والكرم لا يتوقف على المال، فقد يُعطى الإنسان مالاً لكن مع المن والأذى! فلا يفرح به آخذه، ولكن هشاشة الوجه، وطلاقته، وبشاشته، وطيب الكلام، وحسن الاستقبال، كل هذا من أعظم ألوان الكرامة، فينبغي للداعية أن يتحراها، ويحرص عليها، بل وعلى كل خلق كريم جبلت عليه الفطر السلمية، وجاءت به الشرائع الإلهية، فحسن الخلق عموماً مما أطبقت عليه الشرائع، واستحسنه الناس على كافة طبقاتهم، حتى أسوأ الناس خلقاً، وأشد الناس طبعا، ً تجد أنه يرتاح للخلق السليم، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أما شراسة الطبع، وغلظ الخلق، والجفاء، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة، فهي لا تأتي بخير، لم يأتِ بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا أقروها، ولا رضوها، فأولى بأتباعهم أن يبتعدوا عنها.

وفي القصة التي ذكرها الله تعالى عن إبراهيم إجمال، فإن قوله -مثلاً- هنا: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات:28] أوجس الخيفة منهم لأنهم لم يأكلوا الطعام، فهم كانوا ملائكة، لا يطعمون، ما خلقت أجسادهم للطعام والشراب، بل هم مستغنون عن ذلك، فلهذا لم يأكلوا، وهو لم يعلم حقيقتهم بأنهم ملائكة، بل عاملهم بمقتضى ما ظهر له من بشريتهم، فلمَّا رأى أيديهم -كما جاء في الآية الأخرى- ((فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70] إذاً الخيفة التي أوجسها هنا: هي أنهم لم يأكلوا، ففي الآية طيِّ، والتقدير: فقربه إليهم قال: ألا تأكلون، فلم يأكلوا! ولم تمتد أيديهم إلى الطعام، فحينئذٍ نكرهم وأوجس منهم خيفة أن هؤلاء القوم قد يكونون أضمروا شراً! وقد قيل: إن من عادة العرب أن الضيف إذا أكل لم يغدر بأهل المنزل، فإذا نوى وأضمر غدراً فإنه لا يأكل عندهم، ولهذا جرت عادة العرب عندنا أنه إذا جاء الضيف قالوا له: مالح، يعني كل من الطعام، لأنه إذا أكل من الطعام اطمأنوا إليه، أما إذا لم يأكل دلَّ على أنه يضمر بهم شراً وغدراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015