أما النقطة الثانية التي أود التركيز عليها فهي: أن عندنا في كتاب ربنا عز وجل سنة عظيمة جداً من سنن الله تعالى اسمها "المداولة"، قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري عندما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وصار الكلام بينهما, سأله هرقل عن حالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم, فقال: الحرب بيننا وبينه سجال, يدال علينا وندال عليه, مرة لنا ومرة له, انتصر علينا في بدر وانتصرنا عليهم في أحد: فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر إذاً: مسألة المداولة: أمر طبيعي وكم مضى من الأمم والدول تتغير ويخلف بعضها بعضاً، ولذلك فإن المسلمين الذين شاهدوا أفول نجم الإسلام في بلد أو في أمة؛ يتكلمون عن هذه السنن؛ لأنهم لمسوها بأيديهم مثلما حصل في الأندلس, تسمعون وتعرفون القصيدة الشهيرة في رثاء الأندلس المنسوبة لـ أبي البقاء الرندي وفيها يتكلم عن سنة إلهية (سنة المداولة) {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] : لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وفرسان وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان حركة التاريخ -أيها الإخوة- لا تتوقف أبداً، التاريخ يمضي, وحركة التاريخ لا تتوقف, لم تتوقف هذه الحركة عند المسلمين, فالمسلمون أنفسهم لما أخلوا بالسنة الإلهية وقصروا في الواجب وأخلدوا إلى الراحة، أصابتهم وحقت عليهم السنة فتأخروا وتركوا المجال لغيرهم لم يتوقف التاريخ من أجل المسلمين، وهم أقرب الناس إلى الدين وإلى الله عز وجل وإلى الحق؛ فضلاً عن غيرهم من الأمم الأخرى.
من يملك القوة في كثير من الأحيان يغتر بها، ويفرح بما عنده، ويظن أن حصونه تمنعه من الله عز وجل, قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2] أمر ليس في حسبانه، وليس واضعاً هذا الشيء في الاعتبار، وهذا الشيء الذي غفل عنه يكون هو سر زواله وانحلاله.
يقول الله تعالى: {إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24] هنا تحققت السنة الإلهية {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24] .
خذ على سبيل المثال: الشيوعية، هل تدري -يا أخي الحبيب- أن الناس كانوا يقولون: الشيوعية الآن مبدأ يقوم على الإلحاد وإنكار وجود الله، ومع ذلك لها دول تحميها ودول قوية عظيمة ممكنة؟ وما علموا أن مدة هذه الدول هي عشرات السنين، أي: ما يقارب السبعين سنة أو تزيد قليلاً, ثم بعد ذلك بدأ العد التنازلي لـ الشيوعية وزوالها.
هل تعرف يا أخي الحبيب! أن الشيوعية نفسها كانت تقوم على مبدأ يسمونه "ديالكتيك" ولا أريد أن أشرحه لأنه لا يناسب شرحه في هذا المقام, لكنه مبدأ يقول: إن هناك تغيراً دائماً في الكون، وفي النهاية إذا وصلوا إلى الشيوعية يقول لك: وصلوا هنا إلى الفردوس المنتظر وبعد ذلك ينتهي.
أي: أنهم يرون أن التاريخ يمشي حتى إذا وصل إلى الشيوعية توقف, فتتولى الشيوعية إلى الأبد هذا تفسيرهم وهذا منطقهم، ومع أنه منطق أعوج، فقد اغتر به من اغتر, وإذا بالتاريخ لا يبالي بهؤلاء ولا بغيرهم، فتبدأ الشيوعية تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف.