المقارنة بالدار الآخرة

أولاً: تكون المقارنة مع الدار الآخرة: فإن الله عز وجل يقول: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] , وهذا القليل مما لا يمكن أن يخضع لحساب أيضاً, فإننا نعلم أن الدنيا محدودة, مهما طالت فهي عدد من السنوات محدود لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله! لكن الآخرة غير محدودة، فأهل الجنة كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] , وأهل النار كما قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] .

إذاً هي الجنة أبداً أو النار أبداً, جعل لهم الأبد ولو علم أهل النار أنهم يمكثون في النار عدد رمل عالج, أي: رمال صحراء الربع الخالي -مثلاً- لفرحوا، ولكن جعل لهم الأبد! قال سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:169] وقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] وقال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] .

إذاً: هل يمكن المقارنة بين رقم محدود معروف ينتهي، وبين رقم لا يتناهى أبداً؟! إن المقارنة مستحيلة, لأنه لا يمكن المقارنة بين شيء ينتهي وشيء لا ينتهي.

فكيف يجعل الإنسان تفكيره وهمه مقصوراً على هذه الدنيا الفانية المحدودة، وينسى تلك الآباد والآماد المتطاولة التي لا تتناهى أبداً في الدار الآخرة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع} أدخل إحدى أصابعك في البحر ثم أخرجها، فانظر ماذا أخذت أصبعك من البحر؟ هذا البلل البسيط الموجود في أصبعك هل يقاس إلى هذا البحر المتلاطم؟! أبداً! ومع ذلك فإن هذا لمجرد التقريب لذهن الإنسان, وإلا فالواقع أن الدار الآخرة لا يمكن أن تقاس أو تقرن بهذه الحياة الدنيا الفانية المحدودة في الزمان والمكان.

ولهذا يقول الله عز وجل مرشداً عباده المؤمنين لئلا يغتروا بهذه الدنيا وغلبة الباطل والكفر في وقت محدود أو زمان أو مكان محدود، يقول الله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] .

إذاً، المؤمن حين يغفل عن الدار الآخرة؛ يختل الميزان في عينه, وتضطرب المقاييس في نظره، لماذا؟ لأنه أصبح ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، وينسى الدار الآخرة، وهو بذلك قد أخل بقضية في غاية الخطورة, فما الفرق بينك وبين الكافر؟ الفرق: يتلخص بأنك تؤمن بموعد غيب لم تره، ألا وهو الدار الآخرة, وهو لا يؤمن, ولهذا قال موسى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] , ومدح الله رسله وأنبياءه وأولياءه فقال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] .

إلى أي مدى تعيش الدار الآخرة في قلبك؟ إلى أي مدى تدخل الآخرة في حساباتك بحيث تقول: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] وأيضاً حينئذٍ يقول الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: نعم أنتم تتسلون بهذا الكلام, حينما رأيتم أن الدنيا قد أخذها الغرب والشرق، وهيمنت عليها حضارات الكفر والإلحاد، أصبحتم تتسلون بهذا الكلام.

وأقول: كلا! مع أن هذا الكلام فيه تسلية لقلوب المؤمنين، وفيه تسرية لأرواحهم، وشد لعزائمهم وهممهم، وتثبيت لهم، ومع ذلك كله فإن هذا الكلام لا يقال لمجرد التسلية؛ بل هو حساب منطقي جيد حتى في نظر غير المؤمنين.

ألم تر أن الكفار أحياناً يرضون بذل مؤقت طمعاً في نصر كبير؟! هذا موجود, وأقرب مثال: اليهود الآن؛ حين لم ينتقموا من الصواريخ العراقية التي أرسلت إليهم لماذا؟ ليس ذلك عجزاً، وإنما لأنهم يتحملون أن يظن أحد أنهم في فترة معينة سكتوا أو صبروا على شيء لحقهم طمعاً في نصر أكبر من هذا يحققونه.

إذاً قد يؤجل الإنسان أمراً من أموره طمعاً في ما هو أكبر منه, حتى في المقاييس المادية الدنيوية البحتة, فما بالك بالمقاييس الأخروية؟ إن الأمر بالنسبة لها أوضح وأعظم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015