المقارنة التاريخية

الوجه الثالث للمقارنة هو: المقارنة مع الحياة البشرية كلها, لا نريد منك يا أخي الحبيب أن تكون محصوراً في مكان معين أو زمان معين، لا, نريد أن تمد بصرك إلى الماضي كله, في الأرض كلها, وأيضاً أن تمد بصرك إلى المستقبل في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

السابق مثلاً: هل تدري أنه بعدما أهبط آدم من الجنة إلى الدنيا كان آدم حنيفاً مسلماً موحداً؟ لا بد أنك تعلم ذلك بل كان نبياً مكلماً عليه الصلاة والسلام, ثم ظل بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى كما قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال ابن عباس وغيره: [[كان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الهدى]] .

إذاً: كيف تأتينا بمائة سنة أو خمسين سنة سيطرت فيها حضارات مادية زائلة منحرفة, وتنسى عشرة قرون.

أي: ألف سنة كان المهيمن فيها هو دين الله وشرع الله، والتوحيد الذي لا يشوبه شائبة شرك, هل تنسى هذا؟! لا يجوز نسيانه, وأن يستغرق الإنسان في لحظة حاضرة.

كذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منصورة؟ لقد مكثت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرناً، وهي أمة ظافرة منتصرة بيدها تدبير كثير من أمور الأمم، حتى الكافرة, وهذا هو التاريخ الذي يتغنى به كثير من الشعراء, ويتحدثون عن تاريخ هذه الأمة، ومآثرها الخالدة الباقية, ودولها الراسخة, التي مازال التاريخ يذكرها, كما يقول أحدهم: ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا حملناها سيوفاً لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا إذاً: ليست سنيناً ولا عشرات أو مئات السنين! بل أكثر من ذلك, أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية كانت أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب, ومثلما حفظ لنا التاريخ من مآثر بني أمية وبني العباس بل وبني عثمان، خاصة في عصورهم الأولى، وكيف كانوا نموذجاً للهداية الربانية, على سبيل المثال القصة المعروفة لـ هارون الرشيد رحمه الله! الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وكان ربما قطع الليل كله تسبيحاً وقرآنا, ومع ذلك كان يحكم دولة واسعة مترامية الأرجاء, فلما مرت السحابة ببغداد وتجاوزت بغداد ولم تمطر, كان يقول لها: [[أمطري حيث شئت، فسوف يجبى إليّ خراجك]] أين الرشيد وقد طاف السحاب به فحين جاوز بغداداً تحداه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا عبد الرحمن الناصر والداخل في الأندلس كيف بنوا القصور العامرة التي لا تزال باقية إلى اليوم, وخلدوا الحضارة ودعوا إلى الدين, ونشروا هداية الله تعالى في أرجاء الدنيا, ولم يبقَ بينهم وبين دخول عاصمة النصارى إلا أكيال معدودة على مشارف باريس، تراجع المسلمون في معركة بلاط الشهداء المعروفة في التاريخ بمعركة "تور بواتيه" ولو انتصروا -والأمر لله من قبل ومن بعد- في تلك المعركة لدخلوا أوروبا كلها واكتسحوها ولدخلوا إلى روما أيضاً.

ولكن من حكمة الله عز وجل أن يتراجع المد الإسلامي من عند بلاط الشهداء، لأن الله تعالى قضى وقدر أن تفتح القسطنطينية في القرن التاسع قبل أن تفتح روما متى شاء الله عز وجل, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: {أيهما يفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية.

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه؟! وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه! هذي المعالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015