الانحرافات في المنهج

النقطة الثانية: أن هناك انحرافات أصبحت بارزة وبدأت تتسلل إلى نفوس بعض الشباب بأسباب معروفة، المنكرات التي عمت وطمت اليوم وانتشرت بين المسلمين؛ بسبب غياب العلم الشرعي عن كثير من البلاد الإسلامية وعن كثير من البيئات الإسلامية، جعل من الناس من يكتفي بقراءة بعض الكتب، ثم يوجد عنده هذا الحماس في قلبه للدين، فإذا نظر إلى هذا الواقع حدث عنده ردة فعل لهذا الواقع، فصار عنده غلو قد يصل إلى حد تكفير الناس، وقد وجد في عدد من البلاد من يعتبرون أنفسهم -كما يقال- جماعة المسلمين ويعتبرون أن غيرهم كفار، وأن من لا يبايع أميرهم فهو كافر، وقد رأينا بعض الطوائف من الأعاجم من يقولون: بتكفير الخلق كله إلا من كان مبايعاً لزعيمهم، وهو زعيمٌ يوجد في الهند حتى إن أحدهم قال: قل لي أنا حنبلي أقول لك أنت مشرك، وكانوا لا يصلون مع الناس جمعة ولا جماعة، بل ولا يلتفتون إلى رؤية المسلمين للهلال ولا إلى تحديدهم الوقوف بعرفة ولا إلى أعيادهم ولا غير ذلك، وأنت قد تضحك حين تسمع مثل هذه الأفكار لسذاجتها، لكن المصيبة كل المصيبة أنه في غيبة العلم.

1- أهمية اللغة العربية للأعجمي: يمكن أن يروج وينتشر كل مذهب خاصة عند من لا يكون عندهم فهم صحيح للغة العربية، ولذلك قال بعض السلف: " إن من سعادة الحدث والأعجمي إذا تمسك أن يوفق بصاحب سنة" أي: الشاب في أول هدايته عنده استعداد أن يسير في أي اتجاه، عنده حماس، عنده عاطفة، فلو ابتلي بصاحب بدعة لأشرب هذا الشاب حب البدعة وكان لسان حاله يقول: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا وكذلك الأعجمي؛ نظراً لعدم قدرته على فهم النصوص فهماً صحيحاً، أصبح ربما يقع منه أحياناً سوء فهم للنصوص، فيأخذ عمومات ويطبقها على غير وجهها، مثلاً يأخذ قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فيحكم على كل من اتبع عالماً أو قلده في مسألة من المسائل بأنه اتخذه ربّاً من دون الله وبالتالي فهو مشرك، فقهٌ أعوج وجهل بالدين، فالأمة متفقة على أن العامي مذهبه مذهب مفتيه يقلد من يثق بدينه، ومن غير المعقول أن نطلب من الناس أن يتخلوا عن بيعهم وشرائهم وتجارتهم ليتفرغوا لمعرفة العلم والأحكام والحلال والحرام بالدليل، حتى الصحابة رضي الله عنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} .

المهم أن الأعجمي إذا لم يكن عنده فهم للغة العربية ولا فقه في الدين قد يقع في هذا الانحراف، وإنني أقولها صريحة في حدود ما أعلم: لا أعتقد أنه يعلم في هذه الجزيرة العربية بالذات غلو أو ما يسمونه بالمصطلح الصحفي اليوم "تطرف" من هذا النوع، اللهم إلا أن يكون حالات فردية نادرة إن وجدت فهي لا تستحق أن يشار إليها، لكن نحن اليوم نعرف أن العالم أصبح جزيرة واحدة كما يقال، وما يوجد في بلد قد يوجد في بلد آخر أو قد ينتقل إلى بلدٍ آخر؛ سواء بواسطة أشخاص أم كتب أم وسائل متعددة، ولذلك كان هذا التحذير، وإلا فإننا لا نعلم أن هذه الجزيرة يوجد في شبابها ودعاتها ومخلصيها شيئاً من ذلك، والفضل لله عز وجل حيث قيض لهذه الجزيرة من العلماء من يضبطون مسيرة الشباب، فكل شاب مهتد يعتبر المثل الأعلى له من الأحياء هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الشيخ محمد بن عثيمين أو الشيخ عبد الله بن جبرين، أو فلان أو فلان، من العلماء الذين هم من علماء أهل السنة والجماعة ومن رءوس الطائفة المنصورة والفرقة الناجية فيما نحسبه والله تعالى حسبهم ولا نزكي على الله أحداً.

ولذلك سلم الشباب المسلم في هذه الجزيرة من هذا الأمر، ولكن هذا لا يمنع من التحذير؛ خاصة أننا قد نجد حتى من غير أهل هذه البلاد من يكون عنده شيء من ذلك، فقد حدثني بعض الإخوة أن هناك من الإخوة من بلادٍ أخرى من ينادون ببعض هذه الأفكار ويحاولون نشرها، وقد يبتلى بهم جاهل فيقع ضحية تضليلهم وخداعهم.

2- المنهج الفقهي: لا بد من الوضوح في المنهج الفقهي وأعني بالمنهج الفقهي: معرفة الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، معرفة الحلال والحرام، لابد من الوضوح في هذا المنهج بأن يتبع الإنسان كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة واتفقت عليه من الأحكام، أو ما قرره العلماء نتيجة الاستنباط أو القياس الصحيح أو ما شابه ذلك، وهذا الأمر الناس فيه على درجات فبالنسبة للعلماء والفقهاء المجتهدين يأخذون الأحكام من أدلتها مباشرة ولا حاجة أن يوجد بينهم وبين النص واسطة، فهم يختارون من أقوال العلماء قبلهم ما يعتقدون أن الدليل يساندهم فيه.

بالنسبة لطالب العلم الذي لا يستطيع، يمكن أن يسأل العالم عن الحكم ويسأله عن الدليل أيضاً، فيكون متبعاً على بصيرة وليس على جهل، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43-44] أما العامي الذي لا علم عنده ولا يستطيع معرفة الدليل ولا فقهه فإنه يسأل عن الحكم من يثق بدينه.

وفي مجال عملية التفقه لابد من ضبط هذه العملية لتجنب الشطط، فإن من الناس من يشتط فيه ذات اليمين أو ذات الشمال، ومن الناس مثلاً من يشتط في مسألة التعصب المذهبي، والتعصب المذهبي أمر خطير على مدار التاريخ، كم خرب من بلدان وأحدث من فتن، ولله در المنذر بن سعيد الذي كان يتبرم من هذا التعصب ويقول منتقداً على من يتعصبون لمذهب الإمام مالك وينتقدون من خالفه بمقتضى الدليل عنده يقول: عذيلي من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب ٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا أنت قرم مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك وأحد القضاة في بغداد في عصر من العصور وهو القاضي الكرخي كان يقول: كل نصٍ خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول، إذاً لا قيمة للقرآن والسنة من حيث الاستنباط لأن المهم أن تأخذ بالمذهب، وهذا اشتطاط في جانب.

هذا الاشتطاط يقابل اشتطاطاً آخر عند بعض الناس حيث يحملون على هذه المذاهب، وقد يهونون من شأنها ومن شأن أصحابها، ونحن لا نشك بأن الله عز وجل وفق هذه الأمة للاقتداء بالأئمة الأربعة لأنهم أهلٌ لذلك؛ بعلمهم وعملهم وجهادهم واجتهادهم، ولا يعني هذا أن الواحد منهم معصوم، لكن اتفاق العلماء حجة وبعض العلماء يقول: واختلافهم رحمة، لكن المهم أن الإنسان إذا اختلف هؤلاء العلماء لا يسعى إلى الخروج على اختلافهم إلى أقوال حادثة لم يقل بها أحدٌ من قبل.

3- إجلال العلماء: إن المهم تقدير هؤلاء العلماء وعدم الاشتطاط في الحط من قدرهم، أحياناً تجد شاباً ربما يكون عمر هذا الشاب خمس عشرة سنة, وربما يكون علمه بالقرآن الكريم ضعيفاً وفقهه بالسنة ضعيف، ومعرفته بالقواعد الأصولية ضعيف، ومقدرته اللغوية ضعيفة، لكنه قد يقرأ في بعض الكتب أن هذا حديثٌ صحيح وهذا حديث حسن، ثم يستنبط من هذا أحكاماً معينة، وبالتالي من وجده يخالف هذا الحكم الذي استنبطه، ربما اتهمه بأن هذا ليس على صواب، هذا يخالف الدليل، هذا يخالف الحديث، هذا لا عبرة به، اضرب بقوله عرض الحائط وما أشبه ذلك.

وفي الواقع يجب تربية الإخوة الأحباب الشباب على أنه حتى حين تتبع عالماً وتترك عالماً آخر فإنه يجب عليك أن تدرك أن هذا العالم الذي تبعته في نظرك ينبغي أن تكون كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وهو جليل القدر كان يقول: " قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب " ونحن نجد العلماء في مسائل كثيرة يرجع بعض منهم إلى قول الآخر، مثلاً ذكر العلماء أنه حصلت مناظرة بين الشافعي وبين إسحاق بن راهويه الحنظلي في مكة، حصلت مناظرة بينهما في جلود الميتة هل يطهر جلد الميتة أو لا يطهر؟ فكان إسحاق بن راهويه يقول: "لا تطهر جلود الميتة أبداً" أما الشافعي فكان يرى أن جلود الميتة تطهر بالدباغ، فقال الشافعي رحمه الله: حجتي في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها فقال: {هلا انتفعتم بإهابها؟} أي: بجلدها، فهذا دليل أنه يمكن الانتفاع بجلود الميتة وكان الإمام أحمد رحمه الله حاضراً، فقال إسحاق بن راهويه: لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبد الله بن عكيم {لا تنتفع من الميتة بإهابٍ ولا عصب} وكان هذا قبل أن يموت بشهرٍ، فأشبه أن يكون ناسخاً للأول، وبناءً على هذا الحديث فإنه لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة باعتبار أن الحديث الأول منسوخ بالحديث المتأخر، فقال الإمام الشافعي: هذا كتاب وذاك حديث مشافهة، "أي: حديث لا تنتفع من الميتة" كتاب كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله في حديثه: {أتانا كتاب رسول الله قبل أن يموت بشهر في جهينة} فقال هذا كتاب فلا يؤخذ به ويقدم عليه الرواية، قال له إسحاق بن راهويه: فقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى المقوقس وإلى غيرهم يدعوهم إلى الله عز وجل فكانت حجة عليهم، إذاً فكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على من بلغه الكتاب فسكت الشافعي رحمه الله، قال العلماء: فرجع الشافعي إلى قول إسحاق بن راهويه، ورجع إسحاق بن راهويه إلى قول الشافعي.

وهناك أمثلة عديدة طريفة لكن هذا مثال واحد، ليس قصدي الآن الحديث عن هذه المسألة الفقهية فهي مسألة جزئية، لكن أقصد أن ال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015