أنتقل إلى المحذور الثالث وأقول: إن المحذور الثالث هو تعجل الخطوات، والعجلة من حيث الأصل جبلة مركوزة في نفس الإنسان قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] وقال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] ولذلك في قصة موسى والخضر كما قصها الله جل وعلا علينا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {لولا أنه عجل لرأى العجب} وأيضاً في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام كما في مسلم وغيره {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي} فالعجلة تفوت على الإنسان الخير، وهذا مصداق قولهم: (من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه) .
مثال ذلك الدعاء إذا تعجل الإنسان الدعاء ربما عوقب بحرمانه من الدعاء، ولذلك قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، ومفهوم الحديث أنه إذا عجل فقد لا يستجاب له، ولعل الحديث المناسب أيضاً في موضوع التعجل الحديث في صحيح البخاري في قصة خباب بن الأرت رضي الله عنه: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدُ بردة له في ظل الكعبة -جاء إليه الصحابة مقهورون متضايقون من قريش، طال صبرهم وانتظارهم فجاءوا بقلوب محروقة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسوا عنده وهو نائم عند الكعبة -فقالوا له: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس ولم يدع لهم عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ بل التفت إليهم لأنه عليه الصلاة والسلام أدرك الشعور الذي جعلهم يقولون هذا الكلام- فقال: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيشق إلى نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه ما يثنيه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون} والاستعجال يأخذ صوراً عديدة: 1- استعجال النتائج: من الاستعجال: استعجال النتائج بحيث إذا عمل الإنسان شيئاً يريد أن يرى نتيجته، ونحن نعرف في حديث ابن عباس المعروف في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد} هناك نبي يأتي يوم القيامة وحده لم يتبعه إنسان واحد، أقام الحجة، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وبلغ هذا الواجب عليه، فما استجاب له الناس، هذا أمره إلى الله تعالى.
نوح عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم يستجب له إلا أناس يعدون على الأصابع، فأحياناً كثيرة الداعية قد يتعجل النتائج ويريد أن يرى نتيجة دعوته أو أمره أو نهيه، فإذا فعل مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: والله ما رأيت النتيجة، وربما يستحسر ويدع العمل، والمفروض على الإنسان الذي يعمل لوجه الله عز وجل أن لا ينظر إلى النتيجة دائماً، أما إني أقول أن رؤية النتائج مما يزيد من حماس الإنسان وهذا أمر معروف، كما أننا قد عرفنا من تجارب الواقع أن هذه الأمة فيها خير كثير، ولذلك فإن كل داعية حكيم لابد أن يجد نتيجة عمله؛ لكن مع الصبر، إنما على الإنسان ألا يعجل وأن يربط نفسه بالأجر والثواب عند الله جل وعلا، أما النتائج الدنيوية فإن لم تأت اليوم أتت غداً، وإذا ما جاءت على يديك فستأتي على يد غيرك من الدعاة.
2- التعجل في خطوات الإصلاح: الصورة الثانية من استعجال النتائج: أن بعض الناس قد يتعجل في الخطوات في ميادين الإصلاح، وهذا التعجل ربما يتسبب في قطع الطريق عليه، فمثلاً ربما يريد الإنسان أن يصلح في ليلة ما فسد في دهر، وهذه الطريقة يمكن أن تؤدي إلى أن تكثر العداوات والخصومات، ويستفز الناس فيقفون ضده، وبالتالي لا يستطيع أن يواصل في هذا الطريق.
أضرب لذلك بعض الأمثلة: قد يأتي إنسان إلى مؤسسة من المؤسسات دخل فيها الآن وهي جديدة، فوجد فيها من المنكرات ما الله به عليم، تضايق هذا الإنسان وتبرم، ومن حقه بل ومن واجبه أن يكون كذلك، لأن هذا من الإنكار بالقلب, والمؤمن لابد أن يغتاظ إذا رأى المنكر، لكن كيف يغير هذا المنكر؟ ربما يتعجل الخطوات فيريد أن يغير هذه الأمور كلها فيقول: يا أخي أنا مسئول في هذا القطاع في هذه المؤسسة لماذا لا أغير؟ سأغير كل شيء، ربما يغير طاقم الموظفين أحياناً، وربما يقلب الأنظمة رأساً على عقب، ما الذي يحدث؟ قد ينجح أحياناً إذا كان واثقاً من هذا الأمر؛ لكن في أحيان كثيرة لا يستطيع الإنسان أن يقدر المصلحة، فيجد أن هذا العمل كان من نتيجته أنه استطاع أن يستقطب عداوة كثير من الناس، وبالتالي أصبح هؤلاء الناس وقد وضعوا على عواتقهم أنه لابد أن يعملوا ليل نهار على إبعاد هذا الإنسان عن هذا العمل والحيلولة بينه وبين تحقيق ما يريد، ما أصبحت القضية قضية فرد واحد، كما يقول الشاعر: فلو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث حينما يأتي واحد فرضاً إلى مسؤول أعلى منه ويقول له: إن فلاناً فعل وفعل، يمكن أن يرده؛ لكن جاء الثاني والثالث والرابع والخامس والعاشر لا يمكن أن يردهم، وحتى لو فرض أنه مقتنع بأنك على صواب وهم على خطأ سيقول نحن لسنا في حاجة لهذه المشاكل، نحن في غنىً عنها، وبالتالي يقطع الطريق على هذا الإنسان باستمرار عملية الإصلاح، والقليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع.
مثلٌ آخر: قد يوجد إنسان مسئول إداري أو قاضٍ أو غيره ربما يعرض إليه إنسان يحتاج إلى تعزير، قام بذنب يحتاج إلى عقوبة تعزيرية، الناس في بلد من البلدان تعودوا على حكمٍ ضعيف، قد يؤتى بإنسان وقع في ذنبٍ عظيم فيجلد خمس جلدات مثلاً، فأتى إنسان غيور وحريص على إيقاف الناس عند حدود الله فصار يعاقب من كان يعاقب أمس بخمس جلدات صار يعاقبه اليوم بألف جلدة ويقول: هذا حقه الذي يستحقه، ما الذي يحدث؟ قد لا يستطيع أن يستمر في هذا الطريق، ولو وزعت هذه الجلدات على مجموعة من أصحاب الجرائم، وما دام في نفسي أن أقوم بهذه الجلدات لهذا الإنسان ممكن أنني أزيد العقوبة لكن بقدر تدريجي، وكما يقال: خذ وطالب زد الجرعة، ولا يعني هذا أنك توقفت عنده، لكن حتى يتعود الناس عليها، ثم تنتقل إلى ما هو أولى وأكثر منها، والناس يمكن أن يتعودوا على الأشياء الصالحة بالتدريج كما تعودوا على الأشياء السيئة بالتدريج.
الآن كثيرٌ من المعاصي والمنكرات أصبحنا نألفها لماذا؟ لأنها تدريجياً فرضت علينا وأصبحت تنمو كما ينمو الطفل نمواً تدريجياً لا يشعر به من يراه على الدوام.
الخير يمكن أن يطبق بنفس الطريقة، وهذا الذي كان يفعله المسلمون الأوائل، لما وجد الإسلام في مكة كيف استطاع المسلمون أن يفرضوه؟ كانت هناك حرب لا هوادة فيها ضد المسلمين، لكن لما أسلم أبو ذر قام أبو ذر وصاح في ملإٍ من قريش: أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قاموا عليه وضربوه وآذوه وأدموه، المهم أنه خرج من بين أيديهم.
غداً أسلم شخص آخر وما صبر على السكوت فقام وأعلن القضية، كثرت هذه العمليات، كل يوم يقوم شخص بهذه القضية، أصبحت شيئاً فشيء تهون في نفس القرشيين، ولم يعد واحد منهم يقوم بهذا العمل، ولذلك لما أعلنها عمر بن الخطاب رضي الله كما هو في المستدرك ومسند أحمد بن حنبل وغيره بسندٍ صحيح: أنه لما أسلم عمر ذهب إلى رجل من قريش وكان هذا الرجل مشهور بإشاعة الكلام اسمه جميل بن معمر، فأخبره عمر أنه قد أسلم، فذهب هذا الرجل يجر رداءه ويمر بالناس ويقول: هل علمتم أن عمر بن الخطاب قد صبأ، وعمر وراءه يقول له: كذبت ولكنني أسلمت فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتجمع الناس على عمر وصار يضاربهم ويضاربونه، وعمر كان رجلاً جلداً قوياً في الحق يضاربهم ويضاربونه من طلوع الشمس حتى الزوال، فتعب ولما تعب أعيا وقعد، وكان الناس معرشون حوله واقفون، وهو يلتفت إليهم ويقول: يا أعداء الله اصنعوا ما بدا لكم، والله لو بلغنا ثلاثمائة رجل لنخرجنكم من مكة أو تخرجوننا منها، ثم جاء العاص بن وائل وكان حليفاً لـ عمر فوجد هذه المجموعة من الناس فقال ما هذا؟ قالوا: هذا عمر بن الخطاب أما علمت أنه قد صبأ؟ قال: فمه؟ يعني ثم ماذا؟ رجلٌ اختار لنفسه ديناً فدعوه وما اختار لنفسه.
ما كان القرشيون يقولون مثل هذا الكلام بالأمس، لكن لكثرة فرض الخير، وكثرة من يعلن إسلامه هانت القضية عليهم شيئاً فشيئاً حتى صاروا يتشدقون بما يسمونه اليوم حرية الاعتقاد.
فكما أن الشر يفرض على المسلمين بصورة تدريجية حتى يألفوه، كذلك الخير يمكن أن يفرض في المجتمع بصورة تدريجية هادئة لا تدعو إلى استفزاز الناس واستثارتهم ومواجهة الخير وحربه والقتال ضده.
بعض الدعاة في البلاد الإسلامية يخيل إليهم أنهم يملكون أحياناً من القوة ما يغيرون به الدنيا، في الوقت الذي قد تجد فيه أن الداعية لم يستطع تغيير بيته الذي يعيش فيه، لم يستطع أن يؤثر في الحي الذي يعيش فيه، لم يستطع أن يؤثر في المدرسة أو المؤسسة التي يعمل فيها، وهذه أحياناً من الأحلام التي يتعلق بها الإنسان، فالداعية لا ينبغي أن يغتر بنفسه وبقوته، ويظن أنه يستطيع أن يقلب الدنيا كلها رأساً على عقب، كلا، بل عليه ألا يتعجل الخطوات وأن يسير إلى هدفه بصورة تدريجية هادئة و (5%) مستمرة أفضل من (50%) منقطعة وهذا مما تقتضيه الحكمة.